عقد مركز دراسات الشرق الأوسط بالتعاون مع الأكاديمية العربية للعلوم المالية والمصرفية ندوة بعنوان "الأزمة المالية الدولية وانعكاساتها على أسواق المال والاقتصاد العربي" وذلك يوم السبت الموافق 8/11/2008م في عمان، وقد استمرت الندوة طوال يوم كامل، ونوقشت فيها أبحاث الزملاء المشاركين في ثلاث جلسات رئيسة إضافة إلى جلستي الافتتاح والختام، وقدمت الندوة في نهايتها جملة من التوصيات مثلت ابرز ما رآه المشاركون فها من تصورات وحلول وسياسات يمكن لها أن تسهم في بلورة تصورات متكاملة لحماية أسواق المال العربية والدولية من تكرار مذل هذه الأزمة، ناهيك عن الخروج من هذه الأزمة بأقل الخسائر الممكنة.
ويذكر أن ورقة العمل الرئيسة التي أعدها المركز وأقرتها لجنة علمية متخصصة قد أكدت على أن فكرة الندوة تتمحور حول دراسة تداعيات الأزمة المالية الدولية التي وقعت في 13/9/2008م في نيويورك والعالم، ونتائجها على الوطن العربي، وكيف يمكن تحقيق حماية أكثر لأسواق المال العربية والدولية، وأنها تهدف إلى التعرف على جذور الأزمة وأسبابها، وتشخيص الواقع الذي تشكل بعدها والتعرف على الآثار المترتبة على الأزمة عربياً وعالمياً، واستخلاص الدروس المستفادة لمنع تكرار حدوث الأزمة عربياً وتفادي آثارها، وتقديم تصورات لخطط عمل قصيرة المدى وأخرى طويلة المدى للتعامل مع الأزمة المالية، وتحسين فرص الاستفادة عربياً من الواقع الجديد الناشئ عن الأزمة في مجالات أسواق المال والاستثمار والتجارة الدولية والعربية.
وفي كلمته الافتتاحية أكد الأستاذ جواد الحمد مدير مركز دراسات الشرق الأوسط على أن العالم يعيش كابوس الكارثة المالية الدولية في وول ستريت، وأن الكرة لا زالت تتدحرج. وقال: إن هذه الأزمة تسببت بتراجع المؤشرات الاقتصادية الدولية، وتراجعت أعمال البورصات العالمية، وساد الارتباك أسواق المال ليغلق بعضها خوفا من الانهيار، ودخل العالم في أزمة مالية لن تترك أحدا إلا ويناله منها نصيب، خاصة أن الاقتصاد الأمريكي يشكل أكثر من 25-40% من الاقتصاد العالمي. وقال الحمد: إن بعض الأوساط الاقتصادية الدولية تنظر بريبة شديدة لما يتناقل عن سلوك إدارة بنك ليمان برذرز بخصوص الموافقة على تحويل أكثر من 400 مليار دولار إلى إسرائيل قبيل إعلان البنك إفلاسه بأيام قليلة!
وحذر الحمد من الجهود الإسرائيلية والغربية التي تسعى إلى الزج بدول الخليج العربية وأموالها في أتون هذه الأزمة لتتحمل عبئا كبيرا من مسؤوليتها، وذلك رغم صغر حجم الاستثمارات العربية في الغرب نسبة إلى الخسائر الهائلة للأزمة، حيث تجري ضغوط متتابعة ومتواصلة على هذه الدول لضخ مئات المليارات من السيولة المتوفرة لديها في صندوق النقد الدولي وفي الاستثمارات والأسواق والبنوك الغربية.
وأكد أن السياسات العربية في الاستثمار أصبحت بحاجة إلى مراجعة جادة لتتحول إلى الداخل العربي الأكثر أمنا بدلا من تركيزها على أسواق الغرب، لتعمل في المشاريع الكبرى في التطوير الصناعي والزراعي والتكنولوجي، ولتقليل معدلات البطالة والفقر بما يحقق الاستقرار السياسي والاجتماعي ويدعم النماء الاقتصادي المستدام، ودعا إلى تشكيلة خلية أزمة عربية لاحتواء تداعيات الأزمة على الوطن العربي، وتشكيل فريق فني متخصص لتقديم التصورات الناضجة لأنظمة المعاملات التجارية والمالية والمصرفية الإسلامية الذي أصبح ملجأ لتقديمه للعالم كجزء من مشروع الأمة، ومساهمة في معالجة مشاكل الاقتصاد الإنساني في ظل الفشل المتواصل الذي تسبب به النظام الرأسمالي الاقتصادي طوال القرن الماضي، وللإسهام في إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي وفق بعض هذه الأنظمة.
وقال الدكتور محمد الحلايقة رئيس الأكاديمية العربية للعلوم المالية والمصرفية: لقد لحق بالولايات المتحدة الأمريكية ثلاث نكسات وهزات اقتصادية وما هذه الأزمة الجديدة إلا حصيلة تراكم الكثير من الأخطاء في السياسات المالية وقواعد النظام الرأسمالي الذي تطبقه الولايات المتحدة طوال قرن من الزمان، وقال لقد كان هناك إشارات وتنبؤات مبكرة على هذا الزلزال، غير أن ما اتخذ من سياسات لم يكن كافيا، ما يدل على خلل بنيوي في النظام والسياسات ذاتها، ففي عام 1996م تنبأ بول فيندلي بأن يحصل خلل بالنظام الرأسمالي، وفي عام 2005م نشر مقال في مجلة اقتصادية يحذر من الأساليب المالية المتبعة، أما في عام 2006م فقد تم الإعلان عن انهيار (70) شركة أعلنت توقف إفلاسها بسبب الرهن العقاري، وفي نهاية عام 2007م تم الإعلان عن انهيار بنك ستيرز كبداية لعمليات انهيار عدة بنوك أخرى في عام 2008م.
وفي حفل الافتتاح قال الدكتور وليد الوهيب ممثل مجموعة البنك الإسلامي للتنمية، والرئيس التنفيذي للمؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة: لقد مر عالمنا في خلال العقود الأربعة الماضية بالعديد من الأزمات المالية، ولكن تبقى هذه الأزمة هي الأكثر شدة وتأثيرا على أسواق المال والاقتصاد العالمي. وقال: إن الأزمة كشفت هشاشة النظام الرأسمالي والسياسات المتحررة التي اتسم بها هذا النظام، وخصوصا فيما يتعلق بغياب الرقابة الفاعلة من الدول والحكومات.
وقال: إن مجموعة البنك الإسلامي للتنمية قامت بتشكيل فرق العمل المتخصصة لمراقبة تطورات الأزمة ومتابعتها، والمساهمة الإيجابية الفاعلة تجاهها، وتبين لها أنه بالرغم من اتساع آثار الأزمة وتداعياتها، إلا أن تأثر الصناعة المالية الإسلامية إلى هذه اللحظة كان محدوداً، وهو ما يعزى بدرجة كبيرة إلى ما تلتزم به هذه المؤسسات من الضوابط الشرعية للتمويل والالتزام بإجراءات الرقابة المصرفية اللازمة. وقال: لعل الوقت مناسب لاستثمار الفوائض المالية المتوفرة في عالمنا الإسلامي واستثمارها في مشروعات استراتيجية مثل الأمن الغذائي وبرامج مكافحة الفقر في الدول الأقل نموا.
ودعا إلى الاستفادة في سن تشريعات الإصلاح الاقتصادي بتسريع التشريعات التي تساهم في خلق بيئة استثمارية صحية، والاستفادة من حالة الهلع العالمي في توطين التقنيات عن طريق جذب الاستثمارات النوعية، وخصوصا على مستوى الاقتصادات الناشئة والدول النفطية وعلى رأسها دول الخليج.
في الجلسة الأولى- التي تناولت أسباب الأزمة الدولية وأبعادها وسماتها والتي ترأسها الدكتور محمد الحلايقة- قدم الأستاذ معاوية ظبيان مدير بيت المال في الأردن مداخلة شرح فيها أسباب الأزمة الرئيسية، حيث قال: لقد حدثت هذه الأزمة المالية الحالية لأسباب متعددة، أهمها: خفض الفوائد للقروض السكنية عام 2000م في الولايات المتحدة، وبشكل مبالغ فيه، مما رفع سقف الاقتراض إلى أربعة أضعاف، وذلك بهدف تحسين أداء الاقتصاد، ثم باعت هذه الشركات قروضها لشركات الرهن العقاري التي دعمتها بسندات مدعمة بالرهونات العقارية، حيث بيعت هذه السندات لشركات التأمين وصناديق الاستثمار والبنوك، وحملت تصنيف (AAA) من قبل شركات التصنيف العالمية نتيجة رفع الفوائد على الدولار عام 2007م، لاستقطاب ودائع عالمية، ما أدى إلى تعثر هذه القروض السكنية وتعثر السندات الصادرة بموجبها، وقال إن تغيير أسعار الفائدة بشكل لا يعكس الوضع الاقتصادي بما يسمى "استخدام الفائدة كمنشط" كان هو السبب الفني الحقيقي وراء الأزمة المالية الحالية.
ورأى أن شركات التصنيف العالمية SSP، FITICH، MOODY، التي أعطت لتلك السندات تصنيفاً استثمارياً عالياً (AAA) قد وضعت نفسها موضع تساؤل وتشكيك إزاء التصنيفات التي تصدر عنها، حيث أنها سُيِّست بشكل صارخ لصالح السياسات الغربية.
أما الدكتور حازم ببلاوي مستشار صندوق النقد العربي في أبو ظبي فقد عزى أسباب الأزمة الحالية إلى التحول من الاقتصاد الحقيقي إلى الاقتصاد المالي. حيث تسبب ذلك بالتحول من اقتصاد عيني يقوم على السلع والخدمات إلى اقتصاد يقوم على أدوات مالية غير مرتبطة بأصول عينية، وهو الذي يهدد بانزلاق العالم إلى هاوية الكساد والإفلاس في ظل هذه الأزمة المتفاقمة، أي إن زيادة أحجام المديونية أو ما يطلق عليه اسم "الرافعة" Leverage، وغياب رقابة البنوك المركزية على بنوك الاستثمار، وغياب الرقابة أو الإشراف الكافي على المؤسسات المالية الوسيطة، جعل الفرصة مواتية لهذه الانهيارات التي أصبحت تعم أسواق المال الدولية.
كما رأى الببلاوي أن التوسع في منح الائتمانات عالية المخاطر للشركات العاملة في مجال الرهن العقاري، وعدم قدرة مؤسسات التمويل العقاري على القيام بمبادرات الاستحواذ، وعجز الحكومة عن توفير فرص العمل التي وعدت بها ساعد على تداعيات البورصات ومؤشراتها في العالم. ويعتقد الببلاوي أن الأزمة أزمة أخلاقية، واجتماعية، وسياسية في آن واحد، وأن العالم لا زال يغرق فيها لأنه يرى أن النظام الرأسمالي يمتص دماء البشرية، يسلب العامل توفيراته التي يمكن أن تضمن مستقبله، ثم يأخذ منه بيته، ومكان عمله وكرامته. وقد دعا إلى الابتعاد عن الاقتصاد الأمريكي لصالح الاقتصاد الأوروبي في الاستثمارات العربية.
وفي مداخلته على أوراق العمل والموضوع قال الدكتور عدلي قندح مدير عام جمعية البنوك الأردنية: في نهاية عام 1999م تخوف العالم من حدوث مشكلة عام 2000م مما أدى إلى شراء أجهزة كمبيوتر متطورة جديدة، على الرغم من عدم حدوث أي شيء، حيث بدأت الاستثمارات في قطاع تكنولوجيا المعلومات بالانخفاض وتراجعت الأسعار في هذا القطاع، فاتجه البعض للبحث عن قطاع آخر للاستثمار فيه حيث انتشرت توقعات باللجوء إلى تخفيض سعر الفائدة حيث تم تخفيضها فعلا من 6% إلى 1.5 % عام 2001م، وبدأ التحول الجذري والتوجه الاستثماري إلى قطاع العقارات بنسب خيالية، واتجهت البنوك والمؤسسات إلى الإقراض المتزايد وأهمها الشركات الحكومية، ونتيجة لانخفاض أسعار الفائدة تفاقمت هذه الأزمة وبدأت عمليات العجز ترتفع عند عمليات الحجز والرهونات، وبالتالي قل الطلب على الإسكان، ثم أدى ذلك إلى عجز البنوك عن بيع هذه العقارات.
أما د. أحمد العوران، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأردنية، فقد قال: إن الأسباب الجوهرية تكمن في طبيعة النظام الرأسمالي وفي مشاكله البنيوية. الواقع أن هذا النظام يعاني من مشاكل بنيوية حيث تعلم الإنسان أن يسعى وراء مصلحته الخاصة وبكل الوسائل الممكنة. ولا شك أن سعي الإنسان وراء مصلحته شيء صحي ولكن الذي لا يجوز هو أن يتم ذلك بلا ضابط وبلا أخلاق، ومن هنا رأت القوى الكبرى تحقيق مصلحة دولها على حساب الدول الأخرى، حيث دفعت الدول من خلال منظمة التجارة العالمية إلى تحرير أسواقها وتحرير القطاع المالي وخلق أدوات جديدة، مثل المشتقات المالية، والتي يعد جزء منها مجرد مقامرة، كل هدفها تحقيق مصلحة الرأسماليين الجشعين.
ويرى الدكتور العوران أنه لا حلول داخلية من داخل النظام الرأسمالي لا في أزمة عام 1929م ولا في الأزمة الحالية، ومن هنا لم تثبت الرأسمالية صحتها من حيث أن اقتصاد السوق قادر على تحقيق المصلحة العامة.
أما الدكتور عبد الخرابشة، أستاذ الاقتصاد في الأكاديمية العربية، ورئيس ديوان المحاسبة سابقا، فقد أكد أن الولايات المتحدة بتصرفاتها الاقتصادية من خلال الفصل بين الدولار والذهب، والسياسات المالية والاقتصادية التي تم تحريرها، سوف تحمّل دول العالم الأخطاء التي ترتكبها، إضافة إلى ما يمكن أن تتحمله نفسها، ولكن الولايات المتحدة لديها مؤسسات متقدمة جدا تستطيع أن توجه السياسات الاقتصادية نحو تحقيق مصالح الدولة ومؤسسات القطاع الخاص وكذلك الأفراد الذين يستفيدون من مثل هذه السياسات.
أما مستقبل الاقتصاد الرأسمالي فيعتمد على قدرة الدول على بلورة أسس ومعايير وضوابط تساعد هذا النظام على استمراره، وتعتمد قيادة الولايات المتحدة للعالم الاقتصادي على ما يمكن أن تفرضه الدول الأخرى المنافسة أو ذات القوة المالية الكبيرة.
وقال الدكتور ماهر الواكد المدير السباق لبنك الإنماء الصناعي: إن الرأسمالية لم تنته، وإنها تتكيف ولكن ليس على طريقة آدم سميث "اليد الخفية"، وقد ثبت الآن أن اقتصاد السوق لا بد له لكي ينمو بالشكل الصحيح من مراقبة الدولة وتنظيمها له، ولا يتنافى تدخل الدولة للمراقبة والتنظيم مع مبدأ السوق الحر، ويعزز هذه الضرورة تشاؤم بعض كبار الاقتصاديين العالميين، ومنهم الأمريكيون، من كساد اقتصادي ممتد.
وقد جرت محاولات كثيرة لتنظيم العمل المصرفي الأمريكي إلا أن ذلك قد فاقم مشكلة الرهون العقارية مما أدى إلى وجود ما يسمى بـ (Shadow Banking) غير المنظم بقوانين أو أنظمة، والتي نجم عنها أثر كبير في تفاقم الأزمة، علاوة على أن البنوك والمقرضين الأمريكيين قد اخترعوا أسلوبا فريدا في منح القروض الإضافية، وتفننوا في ذلك حيث كانوا يعطون قروضا إضافية يكون ضمانتها الفرق بين القيمة السوقية والقيمة الفعلية.
أما الدكتور محمود السرطاوي أستاذ فقه المعاملات والاقتصاد الإسلامي فقد قال: إن التشريع الإسلامي قد نص على المبادئ الأساسية التي يمكن أن تحدد معالم النظرية الاقتصادية من منظور إسلامي، والتي يمكن بناء النظرية الاقتصادية الإسلامية عليها، ويوجد في التشريع الإسلامي ما يمكن اعتباره مرتكزات أساسية أكثر تحديداً لجوانب النظرية الاقتصادية الإسلامية، كما أن الفقه الإسلامي بني على هذه المبادئ والأسس ما مكنه من الإجابة على التفاعلات المالية التي وجدت في العصور السابقة على هذا العصر، وهو قادر على الإجابة على المعطيات المالية والاقتصادية بما لديه من مرونة وسعة في أصول الاجتهاد الذي تعتمد المصلحة العامة والخاصة أساسا لبناء الأحكام التي لم ينص عليها، ومن ذلك أنه يتسع للاستفادة مما عند الآخرين والبناء عليه، إذا لم يكن معارضاً للمبادئ والمرتكزات التي نصت عليها الشريعة الإسلامية، وفي البنوك الإسلامية وشركات التأمين الإسلامي مثال على هذه المرونة وإمكانية مسايرة المعطيات المالية والاقتصادية وفق أحكام الشريعة الإسلامية.
ومن المبادئ التي نصت عليها الشريعة الإسلامية: إدالة المال وعدم اكتنازه، والعدالة في توزيع الثروة، وإقرار مبدأ الملكية الخاصة إلى جانب الملكية العامة وصياغة واحترام هذه الملكية، بالإضافة إلى القيم الأخلاقية في التعامل المالي والسمو به عن الجشع والاستغلال، والتكافل الاجتماعي وفلسفة الاستخلاف التي تعني أول ما تعني إعمار الكون، والربط الوثيق بين النواحي الروحية والمادية، وبين الحياة الدنيا والدار الآخرة، والموازنة بين الإنتاج والاستهلاك.
ومن المرتكزات الأساسية: إباحة البيع وتحريم الربا، وتحريم بيع الدين بالدين، وتحريم المضاربات المالية التي تعتمد التخمين والمجازفة، وإعادة توزيع الثروة بالميراث، وفرض الزكاة، وإعادة توزيع الثروة تحقيقا للتكافل الاجتماعي، وتحريم الاحتكار والاستغلال، وتحريم الإسراف والتبذير، وتبديد الأموال، والعمل بنظام السوق في تحديد الأسعار.
ومنها أيضا: الرقابة الدائمة للأسواق المالية، لمنع الغش والنجش، والغرر والجهالة، وجعل نظاما خاصا للنقود، فهي وحدات قياس تقاس بها الأموال وليست محلا للمضاربات، وإن أجاز الصرف فيها بشروط خاصة، تحقيقا لحاجات الناس، ورفعاً للمشقة عنهم، وحدّد أسباب الملكية وبين القيود الملازمة لها والقيود الاستثنائية التي ترد عليها، كنزع الملكية وتحديد الأسعار وفرض الضرائب، وكل ذلك بشروط دقيقة ومعلومة بينها الفقهاء في المطولات من كتبهم.
وهكذا تتوالى مرتكزات النظام الاقتصادي في الإسلام، والتي تحتاج إلى حسن تنظيمها، لنبني بها النظرية الإسلامية الاقتصادية، وفي الجملة فإن النظرية الاقتصادية الإسلامية هي وليدة الواقع، فإذا تم تطبيق المبادئ والمرتكزات، فإنها تشكل أعمدة هذه النظرية التي ستثمر خيرا في أمد قصير على المجتمع الإسلامي خاصة والمجتمعات البشرية بصفة عامة. وان كانت هذه المبادئ والمرتكزات والضوابط والسياسات لا تزال غير مكتوبة في شكل نظرية متوافرة الأركان والشروط المعاصرة، ودعا السرطاوي إلى العمل على بلورة هذه النظرية وتقديمها للعامل لتحول دون مثل هذه الأزمة المدمرة التي تواجهها البشرية.
وقال الباحث معتصم الكيلاني، رئيس قسم التنمية المستدامة في وزارة التخطيط و التعاون الدولي،: ألم يكن بالإمكان اعتماد نظام الإنذار المبكر لأكبر دولة واقتصاد في العالم؟ ألم يكن بالإمكان، وكل هذا التقدم في الاتصالات وأنظمة المعلومات وطرق الاقتصاد القياسي، ألم يكن بالإمكان وضع نظام يتنبأ بحدوث الأزمات في أكبر اقتصاد في العالم وأكثر الاقتصادات تأثيرا في العالم؟ ألم يكن بالإمكان التحول في النظام الرأسمالي من مرحلة معالجة الأزمات بعد وقوعها- كما يثبت لنا تاريخ الفكر الاقتصادي- إلى ما يسمى بالمعالجة الوقائية قبل حدوث الأزمة؟ كما نتساءل: أين مؤسسات التصنيف الائتماني من وقوع الأزمة؟ وأين قدرة هذه المؤسسات على التقييمات السابقة لوقوع الأزمات؟
وتناول الدكتور فؤاد بسيسو، رئيس مركز المستقبل الاقتصادي للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، علاقة العرب بالنظام الاقتصادي والمالي الدولي الجديد منطلقا من عدد من الاجتهادات التي أشار إليها المتحدثون حول النظام المالي والمصرفي والتجاري الدولي، ومنها حقوق الملكية والتصنيف المتبع الذي يشجع على توجيه الاستثمارات العربية والدول النامية للدول المتقدمة، وأضاف: إن الفساد قد تغلغل في أحشاء النظام المالي الدولي، وخاصة في صندوق النقد والبنك الدولي.
وأكد التحذير من لجوء الدول ذات التعاملات المالية الكبيرة للأزمة المالية الحالية إلى بعض الدول العربية النفطية لشراء السندات التمويلية لبرامج مواجهة الأزمة المالية الأمريكية والأوروبية.
وقال بسيسو: إن معايير بازل-2 الدولية لا تعمل لصالح الدول العربية والإسلامية، وإن صندوق النقد الدولي في أدائه المتعلق بمؤشرات الإنذار المبكر للأزمات غير منصف للدول العربية، ولذلك لا بد من قيام الدول العربية والإسلامية بالسعي للتمثيل الجاد في أركان النظام المالي والتجاري الدولي الجديد، خاصة أن العرب يمتلكون القوة المؤثرة في النطاق الدولي في ظل اقتصاداتهم الحالية التي أشار لها السيد ظبيان، ولكنني أقول: إن كان ظاهر الأمور يؤيد ذلك، فإن هناك عددا من مصادر القوة الكامنة في الاقتصادات العربية والإسلامية، وبما تملكه من أنظمة إسلامية ملائمة للنظام المالي الدولي ما يمكنها من أن تلعب دورا رائدا في بناء النظام المالي والاقتصادي الدولي الجديد.
وفي الجلسة الثانية- التي خصصت لبحث تداعيات الأزمة الدولية وخطط الإنقاذ المباشر، والتي رأسها الأستاذ عثمان بدير عضو مجلس إدارة شركة الكهرباء، ورئيس غرفة صناعة عمان سابقا- قال الدكتور يوسف خليفة اليوسف، أستاذ الاقتصاد في جامعة الإمارات العربية المتحدة في حديثه حول تداعيات الأزمة على الاقتصادات الغربية قال: إن هذه الأزمة المالية العالمية تعد مثالا حيا على تراجع القوه الليبرالية أحادية الجانب والقوة الرأسمالية المهيمنة والقوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة في ظل التقدم النسبي للقوى الممانعة في المنطقة، وذلك من خلال تراجع الثقة بالدولار وضعف وإفلاس الأجهزة المصرفية العالمية التي اعتمدت في نشاطها على أساس غير سليم في الكسب السريع والإقراض غير المدروس وفي ظل غياب الرقابة، وسيادة القيم الأنانية والمادية على حساب المصلحة الاجتماعية. وقال: رغم ذلك فإن النموذج الرأسمالي لأسواق المال والاقتصاد السائد بما فيه من تأكيد على الحريات وتوفير بيئة منافسة وتواصلا مع العالم يبقى مناسبا ليولد مشاريع تغيير بديله.
أما الدكتور أحمد صيام، أستاذ الاقتصاد في جامعة البلقاء التطبيقية، فقد أكد خطورة الأزمة المالية الدولية، وتناول انعكاساتها على الدول العربية، مؤكدا أنه نتيجة للعولمة وما تحمله في ثناياها من انسياب لرأس المال وفتح أسواق جديدة تطورت حالة من الاستثمار للمال في مضاربات وعمليات مالية بصرف النظر عن الأصول الحقيقية لجني الأرباح. وقال: تشير الأرقام الأولية إلى تجاوز قيمة العقارات في العالم على 70 تريليون دولار بعد أن كانت لا تتعدى 40 تريليون فقط، وقال: إن العالم يبدو متفقا على أنها أزمة بنوك الاستثمار، وأزمة الرهن العقاري، وأزمة الأسواق المالية، وأزمة أسواق الأسهم، وأزمة نظم الائتمان، وأزمة السيولة.
وقال أيضا: إن العالم يُجمِع أيضا على أنها أزمة عالمية رغم أنها حدثت لبنوك ومؤسسات أمريكية فقط، ولذلك يعتقد صيام أن الدول العربية ليست بمنأى عن تداعيات الأزمة المالية العالمية، كون مؤسساتها المالية تمثل جزءا من النظام المالي العالمي، وبذلك تتفاوت درجة تأثر كل دولة بحسب درجة الانفتاح الاقتصادي والمالي على العالم الخارجي، ودعا صيام الدول العربية إلى تشديد الرقابة على الضمانات وكفايتها بالنظر إلى سلامة التسهيلات الممنوحة، والإبقاء على الدور الرقابي للدولة من حيث الجهاز المصرفي وعمل السوق المالي لضمان استمرارية النشاط الاقتصادي بشكل سليم.
من جهته أكد الدكتور معن النسور، رئيس هيئة تشجيع الاستثمار، على تكاثر أسباب الانهيار الذي حصل في أسواق المال الأميركية ثم العالمية، وقال: إن الأزمة أثرت وستؤثر على الدول العربية بدرجات متفاوتة حسب مدى تشابك اقتصادها مع الاقتصاد الأمريكي والعالمي. ورأى أن ردة فعل المستثمرين العرب والأجانب في الأسواق العربية كان مبالغا فيها. وتوقع أن تكون دول الخليج العربية الأكثر تأثرا، خصوصا في ظل تراجع أسعار النفط وصادراته. ويعتقد النسور أن تأثير أزمة الرهن العقاري الأميركية محدود على المصارف العربية. وقال: إن مشاريع البنية التحتية الخليجية هي الأكثر صمودا أمام هذه الأزمة، ودعا النسور إلى المسارعة في وضع الخطط الاقتصادية التي تحدد كيفية التعامل مع هذه الأزمة لتجنيب الاقتصاديات العربية مزيدا من الهزات.
وفيما يتعلق بخطط الإنقاذ الأمريكية والعالمية لمواجهة تداعيات هذه الأزمة استعرض الدكتور محمد أبو حمور وزير المالية الأردني الأسبق، ورئيس مجلس إدارة شركة البوتاس الأردنية، خطط الإنقاذ التي تبنتها الحكومات المختلفة وخاصة موطن الأزمة: الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وبريطانيا، مبينا أن جميع خطط الإنقاذ التي عالجت هذا الموضوع والاجتماعات والمؤتمرات والندوات التي عقدت، واجتماعات الدول الصناعية والمؤسسات الدولية والبنك الدولي التي تدارست الخطط المستقبلية قدمت محاولات علاج آني للأزمة والتي لا يمكن لأحد التنبؤ بحدتها وعمقها وحجمها.
وحول جدوى هذه الخطط بين أبو حمور أنه وحتى يتم الحكم على جدوى هذه الخطط فيجب أولاً مقارنتها بحجم المشكلة، فإذا كانت هذه الخطط تتناسب مع حجم المشكلة فسيكون لها دور في حلها، إلا أن أحدا لم يستطيع بعدُ تقدير المشكلة، ولذلك أصبح من الصعب الحكم على فرص نجاح هذه الخطط من عدمها. وأشار إلى أن حجم المشكلة يزداد سوءاً عند الأخذ بالاعتبار مسألة فقدان الثقة وما نجم عنها من ذعر في أوساط المتعاملين بالأسواق المالية والمصرفية. وأكد أن التوقعات الاقتصادية تتحدث بجدية عن فرص امتداد آثار الأزمة لفترة قد تتعمق إذا ساد العالم ركود اقتصادي كما تشير كثير من التوقعات، وبالتالي يواجه العالم صعوبات كبيرة في وضع خطط استراتيجية لتفادي آثار الأزمة المتمثلة بالتراجع الاقتصادي حتى الآن. وقال: إن الخطط التي طرحت ضخت الأموال لكنها لم توقف تداعيات الأزمة، كما لم تعالج آثارها الاستراتيجية على أسواق المال والاقتصاد العالمي، وبالتالي لم تعد مجدية على المدى القريب والمتوسط. ودعا إلى البحث عن سبل أكثر نجاحا في منع تفاقم الأزمة واحتواء تداعياتها على مدى السنوات القادمة. كما دعا إلى إعادة النظر في فلسفة اقتصاد السوق والعودة إلى الاقتصاد الحقيقي والعمل على توفير مراقبة دقيقة لمؤشرات الاقتصاد العالمي وتحولاته.
الأستاذ جواد الحمد، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط، تساءل في مداخلة له عن تداعيات الأزمة على نمط وطبيعة الحياة العامة في الغرب وفي الوطن العربي خلال عامين من اليوم؟ وقال: إن تداعيات الكساد بهذا الحجم على الاقتصاد والمصالح العليا للدولة وعلى قوة الدولة الداخلية والخارجية في الولايات المتحدة سيشكل أمريكا جديدة، قد لا تكون ذات الصورة التي نتعامل معها اليوم سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وإننا أمام جيل جديد من أسواق المال والعلاقات الدولية والتفاعلات الإنسانية. وإن تداعيات الأزمة حتى الآن هي مجرد رأس جبل الجليد كما يقول عدد من الخبراء، ولذلك فإن على العرب أن يستعدوا للمرحلة القادمة بسياسات وإجراءات حماية لاقتصادهم وأسواقهم، وعدم الاطمئنان إلى بعض التقديرات الدولية لأنها لا تتكلم عن مقارنات اقتصادية بين آثار الأزمة على دولنا صغيرة الاقتصاد ودول العالم الغنية هائلة الاقتصاد، ولكن على الصعيد المحلي الداخلي لكل دولة عربية فقد تكون الأمور مختلفة. واقترح الحمد التركيز على سياسات تحقيق الأمن الغذائي وتوفير الخدمات الأساسية وحراك السوق بدلا من سياسات التطمين غير الموزون وغير العلمي. من جهة أخرى يعتقد الحمد أن ثمة فرصة سانحة لحراك عربي إسلامي نشط لبلورة نظريات عمل وسياسات وطرح تصورات وآليات مالية واستثمارية تنسجم مع مبادئ الشريعة الإسلامية الاقتصادية، وذلك في ظل بحث العالم عن إعادة هيكلة نظام السوق وأسواق المال والاستثمار، ومن المهم عدم التسليم بغياب نظرية اقتصادية إسلامية مكتوبة ومتفق عليها، فإن كانت ملامحها وأسسها موجودة فلماذا لا يتم تشكيل فريق أو هيئة عربية إسلامية لوضع هذه النظرية مفصلة بشكل يتناسب مع متطلبات الاقتصاد المعاصر وتعقيداته.
أما المهندس وائل السقا، نقيب المهندسين الأردنيين، فقال: إن هذه الأزمة المالية والاقتصادية بدأت وطالت أمريكا والدول الغربية أساسا، وكان أثرها على الدول العربية محدودا- حتى الآن-، ولكن لا بد للدول العربية والإسلامية أن تتدارك الأزمة وتحاول وضع حلول اقتصادية ومالية نابعة من مبادئنا وتراثنا الإسلامي، وأن تعمل على ربط الاقتصاد بالأخلاق والمبادئ والقيم الإسلامية، وإيجاد نظام اقتصاد إسلامي وتطبيقه مع تغيير أسلوب الحياة والسلوكيات وتربية الأجيال بما يتناسب مع قيمنا وديننا وأخلاقنا التي أكدت على التكافل ومحاربة الفساد والاحتكار والغش، والتأكيد على أهمية الرقابة والمحاسبة، وأن هناك حياة آخرة ستطال الفاسدين والمسيئين وتكافئ المحسنين.
وتساءل الدكتور يعقوب سليمان، رئيس جمعية اقتصاديي العالم الثالث،: هل ساهمت العائدات النفطية العربية وغير العربية في توفير السيولة للمؤسسات المصرفية والمالية الأمريكية والأوروبية إلى الحد الذي تساهم فيه بتخفيض أسعار الفائدة إلى المعدلات التي وصلت إليها (1%) أو أقل، وتساهم بالتالي في الأزمة؟ ولماذا يطالب منا تحمل وزر أزماتهم المالية والاقتصادية كما أشير في الصباح؟ وهل مطلوب منا تمويل حروب أمريكا ضدنا في العراق وأفغانستان وفلسطين بإنقاذها من أزمتها المالية؟ وتساءل عن تهريب مليارات الدولارات من ليمان برذرز إلى الكيان الصهيوني، وهو الموضوع الذي أثير أيضا في الصباح؟
وتساءل أيضا: كيف يمكن أن يكون الاقتصاد الأردني غير متأثر بالمطلق، علما أن تحويلات المغتربين في الخليج ستتأثر، بل ربما العمالة الأردنية في الخليج قد تتأثر في حال تدحرجت الكرة إلى ملعب السوق الخليجي؟
أما الدكتور سالم بطرس مقطش، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأردنية، فقال: إن الانفصام الفكري بين توجهات الدولة وبين توجهات رأس المال الخاص بالشركات يتسبب بأزمات اقتصادية واجتماعية خطيرة، وقال: إن توجهات رونالد ريغان الرئيس الأمريكي في الثمانينيات شجعت بناء مجتمع الرفاه وغيبت الرقابة، وطفقت الشركات عابرة القارات تبذل محاولات للسيطرة على اقتصاديات العالم، والأزمة المالية الحالية هي منتج لتصارع الفكر الرأسمالي داخليا مع قواعده وأسسه وسياساته ومصالح القائمين عليه، واعتقد أن هذه الأزمة هي مخاض ميلاد العولمة، وذلك بتشجيع ارتفاع أسعار النفط والذهب وتزايد واتساع المضاربات، ثم بتشجيع انخفاض أسعار النفط والذهب، وبهدف تحقيق مكاسب كبيرة للشركات الكبرى من الكساد الاقتصادي وربما لتشجيع حروب عالمية وإقليمية وفتح الأسواق من جديد لتجار السلاح الدوليين! ولا حل للخروج من مآزق هذه الأزمة اليوم قبل تفاقمها في بلادنا إلا بالتوجه نحو الاقتصاد الإنتاجي والمشاريع الإنتاجية.
وتساءل المهندس هاني عاشور، عضو جمعية الرخاء ورجال الأعمال، عن مدى استيعاب المؤسسات والوزارات المعنية في الدولة لهذه الأزمة، واقترح أن يتم الاستعانة بكافة الكفاءات المالية الاقتصادية الوطنية لتحليل هذه الأزمة ولإعداد خطة وطنية لمعالجتها حاليا ومستقبلا، مثل عقد مؤتمر وطني يضم الخبراء الاقتصاديين والماليين لدراسة المشكلة وتقديم توصيات على المدى القريب والبعيد.
من جهة أخرى تساءل عاشور عن المصلحة الوطنية المتحققة بالاستمرار بربط الدينار الأردني بالدولار الأمريكي، خصوصا أن الاقتصاد الأمريكي على حافة الهاوية، وما مدى قوة الدينار الأردني حاليا ومستقبلا نتيجة هذه الأزمة، وحذر من الوقوع في تجربة عام 1988م بالنسبة لتخفيض قيمة الدينار، كما اقترح أن يكون هنالك مراجعة لقوانين الاستثمار لزيادة تحفيز الاستثمارات الخارجية وخاصة رؤوس الأموال العربية.
ودعا عاشور إلى تعزيز وتطبيق الأنظمة المالية الاقتصادية الإسلامية في الأردن والتوسع فيها ووضع القوانين والتشريعات التي تعزز ذلك من خلال تطبيق أدوات الاستثمار الإسلامية، كما دعا إلى العمل على تشكيل وحدة اقتصادية عربية حامية، وطالب بوضع الخطط الاقتصادية الكفيلة بمشاريع لمحاربة الفقر والبطالة، وأشار إلى الخطورة الناتجة عن استمرار أخذ توصيات البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية التي لم تتمكن من حماية أكبر اقتصاديات العامل من الأزمة، ولم توفر له إنذارا مبكرا بخصوصها، وضرورة الاعتماد على إنشاء مؤسسات وطنية والعربية لمراقبة أسواق المال والاقتصاد ومؤشراتها، بهدف توجيه العملية الاقتصادية والاستثمارية إرشادها.
وفي الجلسة الثالثة- التي خصصت لبحث التصورات والسياسات والإجراءات اللازمة لحماية الأسواق العربية والعالمية، والتي ترأسها الدكتور محمد عدينات، مدير دائرة ضريبة الدخل سابقا، وعضو هيئة مكافحة الفساد- قدم الدكتور منذر قحف، أستاذ ومستشار التمويل والأعمال المصرفية، ورقة أكد فيها أن جذور هذه الأزمة تعود إلى أواخر عام 2007م، ومنها تدهور سوق العقارات، وتمويل الحروب الأمريكية الخارجية منذ عام 2002م، واستدراج الأسواق الأوروبية وتوريطها من خلال عمليات التوريق وأسعار الفائدة المرتفعة على ذلك لعدة سنوات.
وقدم قحف رؤيته للأسباب التي أدت إلى تفاقم الأزمة ممثلة بالتوسع في معاملات المضاربات في الأسواق المالية، وانتشار ثقافة الربح السريع، والانتقال إلى الرأسمالية المالية والتخلي عن الإنتاجية والخدمية، واعتماد الإقراض بالفائدة، وانتشار التوريق، والاعتماد على الدين العام بدل الضرائب، والتزايد في الإنفاق الحربي الأمريكي، ليقدم حزمة من السياسات والإجراءات الوقائية والعلاجية، ومنها: انتشال البنوك المتعثرة، وتبني برامج لزيادة مداخيل الطبقة المتوسطة، ومساعدتها في تجاوز أزمة المساكن، واللجوء إلى الضرائب كتمويل حكومي بدلا من الدين العام، والتوقف عن التعامل بالمشتقات المالية، وإعادة النظر بنظم أسواق المال، وبالقوانين الحاكمة لها، والتوقف عن التوريق، وتقديم المعايير الأخلاقية على غيرها في التعامل بين البشر.
ويرى الباحث قحف أن المصارف الإسلامية بدت أقل تأثرا بالأزمة، وأن النظام المصرفي وسياسات المال والتجارة الإسلامية تحقق قدرا كبيرا من الحماية في مثل هذه الأزمات، لأنها تقوم على الاقتصاد الحقيقي والتجارة الحقيقية وليس على تجارة المال. ودعا إلى تقديم نظام الصيرفة الإسلامية للعالم وللآخرين بشكله الحقيقي الذي هو للبشرية كلها رحمة للعاملين وليس خاصا بالإسلام ولا المسلمين.
أما الدكتور فؤاد بسيسو، مدير مركز المستقبل للدراسات الاقتصادية ورئيس سلطة النقد الفلسطينية سابقا، فقد ركز في ورقته على الاقتصاد العربي مؤكدا على أن هذه الأزمة تعد الأخطر منذ (50) عاما, وأن المنبع الحقيقي لاندلاعها هي الولايات المتحدة. وقال: لقد أصبح هنالك رأي يدعو الى حاجة العالم الى خيارات جديدة تأخذ مصالح الدول بشكل عادل ومتوازن، والعمل على بناء أسس تحكم مؤسسات النظام المالي والاقتصادي الذي يعاني من فجوة انتاجية ادت الى التضخم.
إن المرحلة الحالية تستدعي مراجعه شامله في ضوء السلبيات الموجودة، والعمل على فهم تداعيات الأزمة وكيفية احتوائها على أسواق المال والاقتصاد العربي، وبالتالي المساهمة في حماية الاقتصاد العربي في مواجهة الازمات والتخفيف من آثارها. ودعا إلى وضع سياسات تتصدى لمتابعه تحسين أوضاع السوق المالي والقطاع المصرفي في الدول العربية وبشكل عاجل ومتابعه حقيقيه لمتطلبات ذلك بما فيها الرصد الدقيق والتحليل اللازم لتطورات الازمه ومؤشراتها المختلفه وتداعياتها، وطالب ببناء خطه استراتيجيه لتدعيم الاقتصاد تحظى بآليات المتابعة التنفيذية، وتقييم أدائها وإجراء التعديلات عليها في ضوء المستجدات المحليه والاقليميه والدوليه.
وقال: إن ثمة فرص سانحة أمام الاقتصادات العربية لإعادة النظر في التنمية الاقتصادية في الاسلام وتعزيز مسيرة الصيرفة الإسلامية وتحقيق التكامل الاقتصادي العربي, وتحقيق الأمن الغذائي العربي، والعمل على تبني عملة عربية واحدة وعدم ربط العملة العربية بالدولار حتى يتم السيطره على التضخم, وودعا بسيسو وقف الإفراط في تطبيق نظرية اقتصاد السوق، والعمل بدلا من ذلك على تحسين المناخ الاستثماري لجذب الرأس المال العربي، كما رأى الباحث أن دمج البنوك التجارية والبنوك الاستثمارية لتكون قادرة على مواجهه الأزمات, وإعادة النظر في الاستثمارات العربيه في الاسواق الماليه العالمية سوف تساهم في تحقيق حماية اكبر ونماء أفضل للاقتصاد العربي.
وكان الدكتور محمد عدينات، عضو هيئة مكافحة الفساد ورئيس دائرة ضريبة الدخل سابقا، قد قال في افتتاح الجلسة: إن الأزمة المالية هي ليست فقاعة بل هي إعصار كبير مؤلم، وتداعياتها لم تنته بعد، ومعالجة آثارها المالية والاقتصادية قد تحتاج إلى وقت طويل، وبالرغم من أن إرهاصاتها قد بدأت بالظهور في عام 2007م إلا أن حِدّة هذه الأزمة وقوتها وحجمها قد فاقت كل التوقعات، وأدت إلى خسائر كبيرة جداً في المؤسسات المالية وجعلتها على حافة الإفلاس، وخصوصاً بنوك الاستثمار وصناديق التحوط ومؤسسات الرهن العقاري وشركات التأمين، والتي كادت أن تؤدي إلى انهيار النظام المصرفي، وما قد يترتب على ذلك من تداعيات مدمرة على اقتصاديات العالم وخصوصاً في أمريكا والدول المتقدمة، ولولا سرعة الاستجابة واعتماد خطة إنقاذ غير مسبوقة لكان الأمر أخطر مما هو عليه الآن، رغم أنها تتعارض مع الفكر الاقتصادي الكلاسيكي للمحافظين الجدد. وقال: إن للأزمة تداعيات خطيرة على السوق والاقتصاد، أهمها الانخفاض الحاد في البورصات العالمية وما يسببه ذلك من تراجع للنمو الاقتصادي في بلدان العالم، وهو مدعاة إلى تراجع الاستهلاك الخاص وتراجع الطلب سوق التوظيف Job Market.
وقال: إذا لم يتم اتخاذ سياسات وإجراءات فعالة فإنه من المتوقع أن تتعمق وتطول مرحلة الانكماش الاقتصادي، وأن يستمر التراجع في الاستهلاك الخاص، وقد يتراجع الاستثمار في ظل التوقعات المتشائمة عن مستقبل الاقتصاد، علما أن الإجراءات المستعجلة قد تؤدي إلى مزيد من العجز في ميزانيات الدول.
وتوقع عدينات أن توضع كثير من القيود على المشتقات المالية وبنوك الاستثمار ومؤسسات تمويل العقارات ومؤسسات الرهن العقاري وتوريق الديون وشركات التأمين، وإن كل ذلك سيؤدي إلى تراجع أرباح الشركات في المستقبل وهو ما قد يؤدي إلى تراجع النمو الاقتصادي.
ودعا عدينات إلى إعادة النظر في عمل النظام المصرفي أان يكون دوره في خدمة الاقتصاد الحقيقي، وكذلك إعادة النظر في النظام النقدي الدولي ودور صندوق النقد الدولي، وطالب بمعالجة الانكماش الاقتصادي الناجم عن تداعيات هذه الأزمة ومحاولة الخروج منه في أقصر وقت ممكن، كما دعا دول العالم، والعرب على وجه الخصوص، إلى إعادة النظر في دور الدولة في الاقتصاد الكلي على ضوء الدروس المستقاة من تجربة المحافظين الجدد.
أما الدكتور محمد صقر، أستاذ الاقتصاد الإسلامي في الجامعة الأردنية، فقد قال في تعقيبه على أوراق الجلسة وموضوعها: أرى أن هذه الفرصة مواتية للولايات المتحدة لمراجعة سياساتها الداخلية والخارجية، وللأسف فقد أهملت الولايات المتحدة مبدأ العدالة داخليا وخارجيا، والفرصة متاحة الآن لأن تتوقف الولايات المتحدة الأمريكية عن نهب اقتصاديات الدول الأخرى، وتوظيف الفوائد المالية لمصلحتها، وعدم تمكين الدول الفقيرة من تنفيذ برامج حقيقية لمحو مشكلة الفقر. كما أن الولايات المتحدة قاومت وبشدة أي محاولة لإنشاء تكتلات اقتصادية في منطقتنا العربية أو منطقة دول أمريكا اللاتينية.
واعتقد أن البنوك الإسلامية مهيأة لتطوير دورها الاقتصادي والتمويلي بشكل أكثر كفاءة لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة في المجتمعات العربية والإسلامية، ولعل تجربة بنك جرامن للسيد محمد يونس في بنغلادش تساعد في بلورة تصورات ناضجة بهذا الاتجاه، وإن البنوك الإسلامية مدعوة لدراسة التحولات الجارية في العالم لتجد لها قدما إسلامية بين بنوك العالم ولتقدم النموذج الحضاري العربي والإسلامي للاقتصاد.
أما الدكتور محمد عثمان شبير، رئيس قسم الفقه والأصول في جامعة قطر، والمتخصص في المعاملات المالية الإسلامية، فقال في مداخلة رئيسية: إن الشريعة الإسلامية جاءت بمنهج حياة متكامل في جميع جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومن هذا المنطلق نشأت المصارف الإسلامية لتكون البديل الإسلامي عن البنوك التجارية (الربوية) التي انتشرت في العالم العربي والإسلامي، حيث نظر رجال الاقتصاد الإسلامي في المعاملات المالية الإسلامية، وأنتجوا منها منتجات إسلامية تصلح للتطبيق في العمل المصرفي الإسلامي،.
واقترح شبير عددا من الإجراءات والسياسات التي تحقق الحماية للاقتصاد العالمي وأسواق المال، مسترشدا بأسباب الأزمة التي ساقها خبراء الاقتصاد في الندوة وغيرها، حيث أكد على احترام الملكية الفردية، وصيانة الحرية الاقتصادية المنضبطة بالقواعد الكلية في الأديان مثل عدم أكل أموال الناس بالباطل. وحذّر من كثرة المال في أيدي الناس المجردين عن الدين والأخلاق، والتي قد تُطغيهم في التصرف بتلك الأموال، مما يلحق الضرر بالأمة، كما دعا إلى البعد عن جميع صور"الربا" وأشكاله من القرض بفائدة، وبيع السندات وشهادات الاستثمار وشرائها، فهي تجارة بأوراق ليس لها قاعدة إنتاجية حقيقية، ولا تحقق أية قيمة مضافة.
وطالب شبير من منطلقات إسلامية بالاهتمام بالصناعة والزراعة والتجارة من بيع وشراء للسلع والخدمات، والمشاركات التي تحقق الإنتاج الفعلي والقيمة المضافة، والعودة إلى نظام "الغطاء الذهبي والفضي" ولو جزئيا ًلحماية العملات من الانهيار، ودعا إلى إيقاف كل صيغ "بيع الدين بالدين" وأشكاله من "التوريق"، وخصم(حسم) الأوراق التجارية، وخصم الشيكات المؤجلة السداد، وجدولة الديون مع رفع سعر الفائدة، وغير ذلك مما حرَّمته الشريعة الإسلامية، وكذلك إيقاف المضاربين عن التلاعب بالأسعار في الأسواق المالية، فهم يُجرون معاملات وهمية غير حقيقية. وطالب بوقف التعامل بالمشتقات والمضاربات في سوق المال، مثل: البيع على المكشوف الذي يمنعه الاقتصاد الإسلامي ويحذر منه، والحد من المتاجرة بالعملات على الانترنت.
ودعا إلى الأخذ بعقود الاستثمار والتمويل الإسلامي التي تُجريها المصارف الإسلامية، ومواكبة البنك المركزي (بنك الدولة) لما هو جديد في سوق المال بالرقابة المشددة على أسواق المال، وعلى العمل المصرفي بعامة، وعلى ضخ الائتمان (الاقتراض) بخاصة.
وطالب شبير الدول بتفعيل السياسات المصرفية بحزم وصرامة، وبخاصة فيما يتعلق بإدارة السيولة، ومخاطر الائتمان، وكفاية رأس المال، ونشر ثقافة الاقتصاد في المعيشة، والادخار، وعدم الاقتراض إلا لما هو ضروري أو حاجي، وإخضاع مؤسسات الوساطة المالية لرقابة الدولة المشددة، وإلزامها بضوابط العدل والإنصاف التي تعمل على حماية أفراد المجتمع من إغرائهم والتدليس عليهم.
أما الدكتور ماهر الواكد، فقد قال: نحن أسواق ناشئة Emerging Markets ولذا فمن أجل تلافي انعكاسات الأزمة أو أي أزمة قادمة أقترح فتح أسواق جديدة لمنتجاتنا مع تجويد إنتاجنا من السلع والخدمات وتوسيع الأسواق القائمة منها، والعمل على تنمية الأسواق المالية العربية وترسيمها بإدخال الصناديق السيادية كصافي الأسواق وإدخال أدوات استثمارية جديدة ولكنها مدروسة، مع تلافي الأمراض البنكية الغربية لا سيما الأميركية منها Short Selling (البيع على المكشوف)، والعمل على إنشاء أجهزة إنذار مبكر لاكتشاف الأزمات وتلافيها أو التخفيف من آثارها.
ودعا الواكد إلى إيجاد مؤسسات تصنيف عربية من أجل دخول الشركات العربية في الأسواق العربية الأخرى، وكذلك من أجل تقييم الشركات والبنوك التي تطلب الإدراج المشترك لأسهمها، وطالب بدعم الصناعات المشتركة العربية لاسيما التحويلية من أجل التخفيف من أزمات البطالة وإيجاد فرص عمل للداخلية الجدد إلى سوق العمل.
أما الدكتور أحمد العوران، رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة الأردنية فقال: نحن مقبلون على أزمة أخرى لأننا نجلس على برميل من البارود اسمه المشتقات المالية والتي بلغت حجماً هائلاً. ومن ناحية أخرى نحن نعاني من الفكر الرأسمالي المبني على الإنسان الاقتصادي فردي النزعة، والساعي وراء تحقيق مصلحته بلا حدود ولا قيود، والمبني أيضاً على السوق الحرة والنظام الذي لا يعطي دوراً مهما للدولة والقيم، بل إن السوق قد احتوت كامل المجتمع.
وقال: إن تجربة الدولة الإسلامية أيام الدولة العباسية تبين أننا نستطيع أن نطبق النظام الإسلامي وليس هناك ما يمنعنا، وأيام الدولة العباسية لم يكن هناك رأسمالية ولا اشتراكية ولا حتى نظرية اقتصادية إسلامية؛ فالذي يحتاج إلى النظرية هم الأكاديميون، وما على المستثمر إلا أن يعمل وفقاً للقيم الإسلامية، وليس هناك مشكلة في ذلك في جانب الاقتصاد الحقيقي، إذ إن الإنتاج لم يتغير وإنما تغيرت الأدوات والتقنية.
أما الأستاذ مهند طويلة، عضو جمعية الرخاء ورجال الأعمال، فقال: إن النظام المالي العالمي منذ بدايات تأسيسه منذ 200 عام نشأ على أسس ربوية تخالف حاجات البشر بشكل عام، وتخدم فئة قليلة من المؤسسين، وبدأ هذا النظام بالتنامي بشكل سرطاني في جميع أنحاء مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فكانت هناك البنوك والمؤسسات المالية والشركات العقارية وشركات التأمين والشركات التجارية والمصانع وأساس الملكيات وتجمعات الرهنيات المختلفة... الخ مما يتوافق مع هذا النظام. وما لم يسع علماء هذه الأمة ومفكروها العلميون والاقتصاديون إلى وضع نظام اقتصادي راش، ونشر أدوات تنفيذية لهذا النظام من بنوك ومؤسسات مالية وشركات عقارية وتأمينية وتجارية وصناعية... الخ سنبقى نعيش هذه الأزمة وأزمات أخرى، وسنبقى متأثرين وغير مؤثرين، ولنعلم أن كل طريق يبدأ بخطوة، وعلينا جميعاً شحذ الهمم واستنهاض العزائم والعمل بشكل عملي لهذا الأمر، وجمعية الرخاء ورجال الأعمال تمد يدها للتعاون والتنسيق للبدء في هذا البرنامج على المستوى الوطني والعربي والدولي.
وفي الجلسة الختامية- التي خصصت لتقديم رؤية استشرافية لتطورات الأزمة المحتملة وبرامج الإنقاذ المقترحة، ولتداعيات هذه الرؤية على إعادة تركيب وتنظيم النظام الدولي بإعادة المختلفة، والتي رأسها الأستاذ جواد الحمد- قدم الدكتور خالد أمين عبد الله وزير التخطيط الأردني الأسبق، وعميد كلية الدراسات المصرفية في الأكاديمية العربية للعلوم المالية والمصرفية وعضو اللجنة العلمية للندوة ورقة قال فيها: إنّ نظاماً اقتصادياً هو الرأسمالية لم يعد النظام الأمثل، وإنّ انهيار الاشتراكية لم يكن سوى النذير لأفول الرأسمالية، وإن نظاماً ثالثاً بديلاً هو الحلّ، نظام يضمن الحرية الاقتصادية للفرد، ويحافظ على شراكة المجتمع ككل في الكلأ والماء والنار"، ليس بمعانيها المعجمية، وإنّما بمدلولاتها من أسباب الحياة التي يجب أن لا تترك للأفراد للتحكم فيها، وإنّما على الدولة أن تباشرها، كالصحة والتعليم والمرافق العامة من مياه وكهرباء وغيرها، ذلكم هو النظام الاقتصادي الإسلامي بصورته المتكاملة لمختلف الجوانب وليس أعمال الصيرفة فقط.
ويذكر أن ورقة العمل الرئيسة التي أعدها المركز وأقرتها لجنة علمية متخصصة قد أكدت على أن فكرة الندوة تتمحور حول دراسة تداعيات الأزمة المالية الدولية التي وقعت في 13/9/2008م في نيويورك والعالم، ونتائجها على الوطن العربي، وكيف يمكن تحقيق حماية أكثر لأسواق المال العربية والدولية، وأنها تهدف إلى التعرف على جذور الأزمة وأسبابها، وتشخيص الواقع الذي تشكل بعدها والتعرف على الآثار المترتبة على الأزمة عربياً وعالمياً، واستخلاص الدروس المستفادة لمنع تكرار حدوث الأزمة عربياً وتفادي آثارها، وتقديم تصورات لخطط عمل قصيرة المدى وأخرى طويلة المدى للتعامل مع الأزمة المالية، وتحسين فرص الاستفادة عربياً من الواقع الجديد الناشئ عن الأزمة في مجالات أسواق المال والاستثمار والتجارة الدولية والعربية.
وفي كلمته الافتتاحية أكد الأستاذ جواد الحمد مدير مركز دراسات الشرق الأوسط على أن العالم يعيش كابوس الكارثة المالية الدولية في وول ستريت، وأن الكرة لا زالت تتدحرج. وقال: إن هذه الأزمة تسببت بتراجع المؤشرات الاقتصادية الدولية، وتراجعت أعمال البورصات العالمية، وساد الارتباك أسواق المال ليغلق بعضها خوفا من الانهيار، ودخل العالم في أزمة مالية لن تترك أحدا إلا ويناله منها نصيب، خاصة أن الاقتصاد الأمريكي يشكل أكثر من 25-40% من الاقتصاد العالمي. وقال الحمد: إن بعض الأوساط الاقتصادية الدولية تنظر بريبة شديدة لما يتناقل عن سلوك إدارة بنك ليمان برذرز بخصوص الموافقة على تحويل أكثر من 400 مليار دولار إلى إسرائيل قبيل إعلان البنك إفلاسه بأيام قليلة!
وحذر الحمد من الجهود الإسرائيلية والغربية التي تسعى إلى الزج بدول الخليج العربية وأموالها في أتون هذه الأزمة لتتحمل عبئا كبيرا من مسؤوليتها، وذلك رغم صغر حجم الاستثمارات العربية في الغرب نسبة إلى الخسائر الهائلة للأزمة، حيث تجري ضغوط متتابعة ومتواصلة على هذه الدول لضخ مئات المليارات من السيولة المتوفرة لديها في صندوق النقد الدولي وفي الاستثمارات والأسواق والبنوك الغربية.
وأكد أن السياسات العربية في الاستثمار أصبحت بحاجة إلى مراجعة جادة لتتحول إلى الداخل العربي الأكثر أمنا بدلا من تركيزها على أسواق الغرب، لتعمل في المشاريع الكبرى في التطوير الصناعي والزراعي والتكنولوجي، ولتقليل معدلات البطالة والفقر بما يحقق الاستقرار السياسي والاجتماعي ويدعم النماء الاقتصادي المستدام، ودعا إلى تشكيلة خلية أزمة عربية لاحتواء تداعيات الأزمة على الوطن العربي، وتشكيل فريق فني متخصص لتقديم التصورات الناضجة لأنظمة المعاملات التجارية والمالية والمصرفية الإسلامية الذي أصبح ملجأ لتقديمه للعالم كجزء من مشروع الأمة، ومساهمة في معالجة مشاكل الاقتصاد الإنساني في ظل الفشل المتواصل الذي تسبب به النظام الرأسمالي الاقتصادي طوال القرن الماضي، وللإسهام في إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي وفق بعض هذه الأنظمة.
وقال الدكتور محمد الحلايقة رئيس الأكاديمية العربية للعلوم المالية والمصرفية: لقد لحق بالولايات المتحدة الأمريكية ثلاث نكسات وهزات اقتصادية وما هذه الأزمة الجديدة إلا حصيلة تراكم الكثير من الأخطاء في السياسات المالية وقواعد النظام الرأسمالي الذي تطبقه الولايات المتحدة طوال قرن من الزمان، وقال لقد كان هناك إشارات وتنبؤات مبكرة على هذا الزلزال، غير أن ما اتخذ من سياسات لم يكن كافيا، ما يدل على خلل بنيوي في النظام والسياسات ذاتها، ففي عام 1996م تنبأ بول فيندلي بأن يحصل خلل بالنظام الرأسمالي، وفي عام 2005م نشر مقال في مجلة اقتصادية يحذر من الأساليب المالية المتبعة، أما في عام 2006م فقد تم الإعلان عن انهيار (70) شركة أعلنت توقف إفلاسها بسبب الرهن العقاري، وفي نهاية عام 2007م تم الإعلان عن انهيار بنك ستيرز كبداية لعمليات انهيار عدة بنوك أخرى في عام 2008م.
وفي حفل الافتتاح قال الدكتور وليد الوهيب ممثل مجموعة البنك الإسلامي للتنمية، والرئيس التنفيذي للمؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة: لقد مر عالمنا في خلال العقود الأربعة الماضية بالعديد من الأزمات المالية، ولكن تبقى هذه الأزمة هي الأكثر شدة وتأثيرا على أسواق المال والاقتصاد العالمي. وقال: إن الأزمة كشفت هشاشة النظام الرأسمالي والسياسات المتحررة التي اتسم بها هذا النظام، وخصوصا فيما يتعلق بغياب الرقابة الفاعلة من الدول والحكومات.
وقال: إن مجموعة البنك الإسلامي للتنمية قامت بتشكيل فرق العمل المتخصصة لمراقبة تطورات الأزمة ومتابعتها، والمساهمة الإيجابية الفاعلة تجاهها، وتبين لها أنه بالرغم من اتساع آثار الأزمة وتداعياتها، إلا أن تأثر الصناعة المالية الإسلامية إلى هذه اللحظة كان محدوداً، وهو ما يعزى بدرجة كبيرة إلى ما تلتزم به هذه المؤسسات من الضوابط الشرعية للتمويل والالتزام بإجراءات الرقابة المصرفية اللازمة. وقال: لعل الوقت مناسب لاستثمار الفوائض المالية المتوفرة في عالمنا الإسلامي واستثمارها في مشروعات استراتيجية مثل الأمن الغذائي وبرامج مكافحة الفقر في الدول الأقل نموا.
ودعا إلى الاستفادة في سن تشريعات الإصلاح الاقتصادي بتسريع التشريعات التي تساهم في خلق بيئة استثمارية صحية، والاستفادة من حالة الهلع العالمي في توطين التقنيات عن طريق جذب الاستثمارات النوعية، وخصوصا على مستوى الاقتصادات الناشئة والدول النفطية وعلى رأسها دول الخليج.
في الجلسة الأولى- التي تناولت أسباب الأزمة الدولية وأبعادها وسماتها والتي ترأسها الدكتور محمد الحلايقة- قدم الأستاذ معاوية ظبيان مدير بيت المال في الأردن مداخلة شرح فيها أسباب الأزمة الرئيسية، حيث قال: لقد حدثت هذه الأزمة المالية الحالية لأسباب متعددة، أهمها: خفض الفوائد للقروض السكنية عام 2000م في الولايات المتحدة، وبشكل مبالغ فيه، مما رفع سقف الاقتراض إلى أربعة أضعاف، وذلك بهدف تحسين أداء الاقتصاد، ثم باعت هذه الشركات قروضها لشركات الرهن العقاري التي دعمتها بسندات مدعمة بالرهونات العقارية، حيث بيعت هذه السندات لشركات التأمين وصناديق الاستثمار والبنوك، وحملت تصنيف (AAA) من قبل شركات التصنيف العالمية نتيجة رفع الفوائد على الدولار عام 2007م، لاستقطاب ودائع عالمية، ما أدى إلى تعثر هذه القروض السكنية وتعثر السندات الصادرة بموجبها، وقال إن تغيير أسعار الفائدة بشكل لا يعكس الوضع الاقتصادي بما يسمى "استخدام الفائدة كمنشط" كان هو السبب الفني الحقيقي وراء الأزمة المالية الحالية.
ورأى أن شركات التصنيف العالمية SSP، FITICH، MOODY، التي أعطت لتلك السندات تصنيفاً استثمارياً عالياً (AAA) قد وضعت نفسها موضع تساؤل وتشكيك إزاء التصنيفات التي تصدر عنها، حيث أنها سُيِّست بشكل صارخ لصالح السياسات الغربية.
أما الدكتور حازم ببلاوي مستشار صندوق النقد العربي في أبو ظبي فقد عزى أسباب الأزمة الحالية إلى التحول من الاقتصاد الحقيقي إلى الاقتصاد المالي. حيث تسبب ذلك بالتحول من اقتصاد عيني يقوم على السلع والخدمات إلى اقتصاد يقوم على أدوات مالية غير مرتبطة بأصول عينية، وهو الذي يهدد بانزلاق العالم إلى هاوية الكساد والإفلاس في ظل هذه الأزمة المتفاقمة، أي إن زيادة أحجام المديونية أو ما يطلق عليه اسم "الرافعة" Leverage، وغياب رقابة البنوك المركزية على بنوك الاستثمار، وغياب الرقابة أو الإشراف الكافي على المؤسسات المالية الوسيطة، جعل الفرصة مواتية لهذه الانهيارات التي أصبحت تعم أسواق المال الدولية.
كما رأى الببلاوي أن التوسع في منح الائتمانات عالية المخاطر للشركات العاملة في مجال الرهن العقاري، وعدم قدرة مؤسسات التمويل العقاري على القيام بمبادرات الاستحواذ، وعجز الحكومة عن توفير فرص العمل التي وعدت بها ساعد على تداعيات البورصات ومؤشراتها في العالم. ويعتقد الببلاوي أن الأزمة أزمة أخلاقية، واجتماعية، وسياسية في آن واحد، وأن العالم لا زال يغرق فيها لأنه يرى أن النظام الرأسمالي يمتص دماء البشرية، يسلب العامل توفيراته التي يمكن أن تضمن مستقبله، ثم يأخذ منه بيته، ومكان عمله وكرامته. وقد دعا إلى الابتعاد عن الاقتصاد الأمريكي لصالح الاقتصاد الأوروبي في الاستثمارات العربية.
وفي مداخلته على أوراق العمل والموضوع قال الدكتور عدلي قندح مدير عام جمعية البنوك الأردنية: في نهاية عام 1999م تخوف العالم من حدوث مشكلة عام 2000م مما أدى إلى شراء أجهزة كمبيوتر متطورة جديدة، على الرغم من عدم حدوث أي شيء، حيث بدأت الاستثمارات في قطاع تكنولوجيا المعلومات بالانخفاض وتراجعت الأسعار في هذا القطاع، فاتجه البعض للبحث عن قطاع آخر للاستثمار فيه حيث انتشرت توقعات باللجوء إلى تخفيض سعر الفائدة حيث تم تخفيضها فعلا من 6% إلى 1.5 % عام 2001م، وبدأ التحول الجذري والتوجه الاستثماري إلى قطاع العقارات بنسب خيالية، واتجهت البنوك والمؤسسات إلى الإقراض المتزايد وأهمها الشركات الحكومية، ونتيجة لانخفاض أسعار الفائدة تفاقمت هذه الأزمة وبدأت عمليات العجز ترتفع عند عمليات الحجز والرهونات، وبالتالي قل الطلب على الإسكان، ثم أدى ذلك إلى عجز البنوك عن بيع هذه العقارات.
أما د. أحمد العوران، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأردنية، فقد قال: إن الأسباب الجوهرية تكمن في طبيعة النظام الرأسمالي وفي مشاكله البنيوية. الواقع أن هذا النظام يعاني من مشاكل بنيوية حيث تعلم الإنسان أن يسعى وراء مصلحته الخاصة وبكل الوسائل الممكنة. ولا شك أن سعي الإنسان وراء مصلحته شيء صحي ولكن الذي لا يجوز هو أن يتم ذلك بلا ضابط وبلا أخلاق، ومن هنا رأت القوى الكبرى تحقيق مصلحة دولها على حساب الدول الأخرى، حيث دفعت الدول من خلال منظمة التجارة العالمية إلى تحرير أسواقها وتحرير القطاع المالي وخلق أدوات جديدة، مثل المشتقات المالية، والتي يعد جزء منها مجرد مقامرة، كل هدفها تحقيق مصلحة الرأسماليين الجشعين.
ويرى الدكتور العوران أنه لا حلول داخلية من داخل النظام الرأسمالي لا في أزمة عام 1929م ولا في الأزمة الحالية، ومن هنا لم تثبت الرأسمالية صحتها من حيث أن اقتصاد السوق قادر على تحقيق المصلحة العامة.
أما الدكتور عبد الخرابشة، أستاذ الاقتصاد في الأكاديمية العربية، ورئيس ديوان المحاسبة سابقا، فقد أكد أن الولايات المتحدة بتصرفاتها الاقتصادية من خلال الفصل بين الدولار والذهب، والسياسات المالية والاقتصادية التي تم تحريرها، سوف تحمّل دول العالم الأخطاء التي ترتكبها، إضافة إلى ما يمكن أن تتحمله نفسها، ولكن الولايات المتحدة لديها مؤسسات متقدمة جدا تستطيع أن توجه السياسات الاقتصادية نحو تحقيق مصالح الدولة ومؤسسات القطاع الخاص وكذلك الأفراد الذين يستفيدون من مثل هذه السياسات.
أما مستقبل الاقتصاد الرأسمالي فيعتمد على قدرة الدول على بلورة أسس ومعايير وضوابط تساعد هذا النظام على استمراره، وتعتمد قيادة الولايات المتحدة للعالم الاقتصادي على ما يمكن أن تفرضه الدول الأخرى المنافسة أو ذات القوة المالية الكبيرة.
وقال الدكتور ماهر الواكد المدير السباق لبنك الإنماء الصناعي: إن الرأسمالية لم تنته، وإنها تتكيف ولكن ليس على طريقة آدم سميث "اليد الخفية"، وقد ثبت الآن أن اقتصاد السوق لا بد له لكي ينمو بالشكل الصحيح من مراقبة الدولة وتنظيمها له، ولا يتنافى تدخل الدولة للمراقبة والتنظيم مع مبدأ السوق الحر، ويعزز هذه الضرورة تشاؤم بعض كبار الاقتصاديين العالميين، ومنهم الأمريكيون، من كساد اقتصادي ممتد.
وقد جرت محاولات كثيرة لتنظيم العمل المصرفي الأمريكي إلا أن ذلك قد فاقم مشكلة الرهون العقارية مما أدى إلى وجود ما يسمى بـ (Shadow Banking) غير المنظم بقوانين أو أنظمة، والتي نجم عنها أثر كبير في تفاقم الأزمة، علاوة على أن البنوك والمقرضين الأمريكيين قد اخترعوا أسلوبا فريدا في منح القروض الإضافية، وتفننوا في ذلك حيث كانوا يعطون قروضا إضافية يكون ضمانتها الفرق بين القيمة السوقية والقيمة الفعلية.
أما الدكتور محمود السرطاوي أستاذ فقه المعاملات والاقتصاد الإسلامي فقد قال: إن التشريع الإسلامي قد نص على المبادئ الأساسية التي يمكن أن تحدد معالم النظرية الاقتصادية من منظور إسلامي، والتي يمكن بناء النظرية الاقتصادية الإسلامية عليها، ويوجد في التشريع الإسلامي ما يمكن اعتباره مرتكزات أساسية أكثر تحديداً لجوانب النظرية الاقتصادية الإسلامية، كما أن الفقه الإسلامي بني على هذه المبادئ والأسس ما مكنه من الإجابة على التفاعلات المالية التي وجدت في العصور السابقة على هذا العصر، وهو قادر على الإجابة على المعطيات المالية والاقتصادية بما لديه من مرونة وسعة في أصول الاجتهاد الذي تعتمد المصلحة العامة والخاصة أساسا لبناء الأحكام التي لم ينص عليها، ومن ذلك أنه يتسع للاستفادة مما عند الآخرين والبناء عليه، إذا لم يكن معارضاً للمبادئ والمرتكزات التي نصت عليها الشريعة الإسلامية، وفي البنوك الإسلامية وشركات التأمين الإسلامي مثال على هذه المرونة وإمكانية مسايرة المعطيات المالية والاقتصادية وفق أحكام الشريعة الإسلامية.
ومن المبادئ التي نصت عليها الشريعة الإسلامية: إدالة المال وعدم اكتنازه، والعدالة في توزيع الثروة، وإقرار مبدأ الملكية الخاصة إلى جانب الملكية العامة وصياغة واحترام هذه الملكية، بالإضافة إلى القيم الأخلاقية في التعامل المالي والسمو به عن الجشع والاستغلال، والتكافل الاجتماعي وفلسفة الاستخلاف التي تعني أول ما تعني إعمار الكون، والربط الوثيق بين النواحي الروحية والمادية، وبين الحياة الدنيا والدار الآخرة، والموازنة بين الإنتاج والاستهلاك.
ومن المرتكزات الأساسية: إباحة البيع وتحريم الربا، وتحريم بيع الدين بالدين، وتحريم المضاربات المالية التي تعتمد التخمين والمجازفة، وإعادة توزيع الثروة بالميراث، وفرض الزكاة، وإعادة توزيع الثروة تحقيقا للتكافل الاجتماعي، وتحريم الاحتكار والاستغلال، وتحريم الإسراف والتبذير، وتبديد الأموال، والعمل بنظام السوق في تحديد الأسعار.
ومنها أيضا: الرقابة الدائمة للأسواق المالية، لمنع الغش والنجش، والغرر والجهالة، وجعل نظاما خاصا للنقود، فهي وحدات قياس تقاس بها الأموال وليست محلا للمضاربات، وإن أجاز الصرف فيها بشروط خاصة، تحقيقا لحاجات الناس، ورفعاً للمشقة عنهم، وحدّد أسباب الملكية وبين القيود الملازمة لها والقيود الاستثنائية التي ترد عليها، كنزع الملكية وتحديد الأسعار وفرض الضرائب، وكل ذلك بشروط دقيقة ومعلومة بينها الفقهاء في المطولات من كتبهم.
وهكذا تتوالى مرتكزات النظام الاقتصادي في الإسلام، والتي تحتاج إلى حسن تنظيمها، لنبني بها النظرية الإسلامية الاقتصادية، وفي الجملة فإن النظرية الاقتصادية الإسلامية هي وليدة الواقع، فإذا تم تطبيق المبادئ والمرتكزات، فإنها تشكل أعمدة هذه النظرية التي ستثمر خيرا في أمد قصير على المجتمع الإسلامي خاصة والمجتمعات البشرية بصفة عامة. وان كانت هذه المبادئ والمرتكزات والضوابط والسياسات لا تزال غير مكتوبة في شكل نظرية متوافرة الأركان والشروط المعاصرة، ودعا السرطاوي إلى العمل على بلورة هذه النظرية وتقديمها للعامل لتحول دون مثل هذه الأزمة المدمرة التي تواجهها البشرية.
وقال الباحث معتصم الكيلاني، رئيس قسم التنمية المستدامة في وزارة التخطيط و التعاون الدولي،: ألم يكن بالإمكان اعتماد نظام الإنذار المبكر لأكبر دولة واقتصاد في العالم؟ ألم يكن بالإمكان، وكل هذا التقدم في الاتصالات وأنظمة المعلومات وطرق الاقتصاد القياسي، ألم يكن بالإمكان وضع نظام يتنبأ بحدوث الأزمات في أكبر اقتصاد في العالم وأكثر الاقتصادات تأثيرا في العالم؟ ألم يكن بالإمكان التحول في النظام الرأسمالي من مرحلة معالجة الأزمات بعد وقوعها- كما يثبت لنا تاريخ الفكر الاقتصادي- إلى ما يسمى بالمعالجة الوقائية قبل حدوث الأزمة؟ كما نتساءل: أين مؤسسات التصنيف الائتماني من وقوع الأزمة؟ وأين قدرة هذه المؤسسات على التقييمات السابقة لوقوع الأزمات؟
وتناول الدكتور فؤاد بسيسو، رئيس مركز المستقبل الاقتصادي للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، علاقة العرب بالنظام الاقتصادي والمالي الدولي الجديد منطلقا من عدد من الاجتهادات التي أشار إليها المتحدثون حول النظام المالي والمصرفي والتجاري الدولي، ومنها حقوق الملكية والتصنيف المتبع الذي يشجع على توجيه الاستثمارات العربية والدول النامية للدول المتقدمة، وأضاف: إن الفساد قد تغلغل في أحشاء النظام المالي الدولي، وخاصة في صندوق النقد والبنك الدولي.
وأكد التحذير من لجوء الدول ذات التعاملات المالية الكبيرة للأزمة المالية الحالية إلى بعض الدول العربية النفطية لشراء السندات التمويلية لبرامج مواجهة الأزمة المالية الأمريكية والأوروبية.
وقال بسيسو: إن معايير بازل-2 الدولية لا تعمل لصالح الدول العربية والإسلامية، وإن صندوق النقد الدولي في أدائه المتعلق بمؤشرات الإنذار المبكر للأزمات غير منصف للدول العربية، ولذلك لا بد من قيام الدول العربية والإسلامية بالسعي للتمثيل الجاد في أركان النظام المالي والتجاري الدولي الجديد، خاصة أن العرب يمتلكون القوة المؤثرة في النطاق الدولي في ظل اقتصاداتهم الحالية التي أشار لها السيد ظبيان، ولكنني أقول: إن كان ظاهر الأمور يؤيد ذلك، فإن هناك عددا من مصادر القوة الكامنة في الاقتصادات العربية والإسلامية، وبما تملكه من أنظمة إسلامية ملائمة للنظام المالي الدولي ما يمكنها من أن تلعب دورا رائدا في بناء النظام المالي والاقتصادي الدولي الجديد.
وفي الجلسة الثانية- التي خصصت لبحث تداعيات الأزمة الدولية وخطط الإنقاذ المباشر، والتي رأسها الأستاذ عثمان بدير عضو مجلس إدارة شركة الكهرباء، ورئيس غرفة صناعة عمان سابقا- قال الدكتور يوسف خليفة اليوسف، أستاذ الاقتصاد في جامعة الإمارات العربية المتحدة في حديثه حول تداعيات الأزمة على الاقتصادات الغربية قال: إن هذه الأزمة المالية العالمية تعد مثالا حيا على تراجع القوه الليبرالية أحادية الجانب والقوة الرأسمالية المهيمنة والقوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة في ظل التقدم النسبي للقوى الممانعة في المنطقة، وذلك من خلال تراجع الثقة بالدولار وضعف وإفلاس الأجهزة المصرفية العالمية التي اعتمدت في نشاطها على أساس غير سليم في الكسب السريع والإقراض غير المدروس وفي ظل غياب الرقابة، وسيادة القيم الأنانية والمادية على حساب المصلحة الاجتماعية. وقال: رغم ذلك فإن النموذج الرأسمالي لأسواق المال والاقتصاد السائد بما فيه من تأكيد على الحريات وتوفير بيئة منافسة وتواصلا مع العالم يبقى مناسبا ليولد مشاريع تغيير بديله.
أما الدكتور أحمد صيام، أستاذ الاقتصاد في جامعة البلقاء التطبيقية، فقد أكد خطورة الأزمة المالية الدولية، وتناول انعكاساتها على الدول العربية، مؤكدا أنه نتيجة للعولمة وما تحمله في ثناياها من انسياب لرأس المال وفتح أسواق جديدة تطورت حالة من الاستثمار للمال في مضاربات وعمليات مالية بصرف النظر عن الأصول الحقيقية لجني الأرباح. وقال: تشير الأرقام الأولية إلى تجاوز قيمة العقارات في العالم على 70 تريليون دولار بعد أن كانت لا تتعدى 40 تريليون فقط، وقال: إن العالم يبدو متفقا على أنها أزمة بنوك الاستثمار، وأزمة الرهن العقاري، وأزمة الأسواق المالية، وأزمة أسواق الأسهم، وأزمة نظم الائتمان، وأزمة السيولة.
وقال أيضا: إن العالم يُجمِع أيضا على أنها أزمة عالمية رغم أنها حدثت لبنوك ومؤسسات أمريكية فقط، ولذلك يعتقد صيام أن الدول العربية ليست بمنأى عن تداعيات الأزمة المالية العالمية، كون مؤسساتها المالية تمثل جزءا من النظام المالي العالمي، وبذلك تتفاوت درجة تأثر كل دولة بحسب درجة الانفتاح الاقتصادي والمالي على العالم الخارجي، ودعا صيام الدول العربية إلى تشديد الرقابة على الضمانات وكفايتها بالنظر إلى سلامة التسهيلات الممنوحة، والإبقاء على الدور الرقابي للدولة من حيث الجهاز المصرفي وعمل السوق المالي لضمان استمرارية النشاط الاقتصادي بشكل سليم.
من جهته أكد الدكتور معن النسور، رئيس هيئة تشجيع الاستثمار، على تكاثر أسباب الانهيار الذي حصل في أسواق المال الأميركية ثم العالمية، وقال: إن الأزمة أثرت وستؤثر على الدول العربية بدرجات متفاوتة حسب مدى تشابك اقتصادها مع الاقتصاد الأمريكي والعالمي. ورأى أن ردة فعل المستثمرين العرب والأجانب في الأسواق العربية كان مبالغا فيها. وتوقع أن تكون دول الخليج العربية الأكثر تأثرا، خصوصا في ظل تراجع أسعار النفط وصادراته. ويعتقد النسور أن تأثير أزمة الرهن العقاري الأميركية محدود على المصارف العربية. وقال: إن مشاريع البنية التحتية الخليجية هي الأكثر صمودا أمام هذه الأزمة، ودعا النسور إلى المسارعة في وضع الخطط الاقتصادية التي تحدد كيفية التعامل مع هذه الأزمة لتجنيب الاقتصاديات العربية مزيدا من الهزات.
وفيما يتعلق بخطط الإنقاذ الأمريكية والعالمية لمواجهة تداعيات هذه الأزمة استعرض الدكتور محمد أبو حمور وزير المالية الأردني الأسبق، ورئيس مجلس إدارة شركة البوتاس الأردنية، خطط الإنقاذ التي تبنتها الحكومات المختلفة وخاصة موطن الأزمة: الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وبريطانيا، مبينا أن جميع خطط الإنقاذ التي عالجت هذا الموضوع والاجتماعات والمؤتمرات والندوات التي عقدت، واجتماعات الدول الصناعية والمؤسسات الدولية والبنك الدولي التي تدارست الخطط المستقبلية قدمت محاولات علاج آني للأزمة والتي لا يمكن لأحد التنبؤ بحدتها وعمقها وحجمها.
وحول جدوى هذه الخطط بين أبو حمور أنه وحتى يتم الحكم على جدوى هذه الخطط فيجب أولاً مقارنتها بحجم المشكلة، فإذا كانت هذه الخطط تتناسب مع حجم المشكلة فسيكون لها دور في حلها، إلا أن أحدا لم يستطيع بعدُ تقدير المشكلة، ولذلك أصبح من الصعب الحكم على فرص نجاح هذه الخطط من عدمها. وأشار إلى أن حجم المشكلة يزداد سوءاً عند الأخذ بالاعتبار مسألة فقدان الثقة وما نجم عنها من ذعر في أوساط المتعاملين بالأسواق المالية والمصرفية. وأكد أن التوقعات الاقتصادية تتحدث بجدية عن فرص امتداد آثار الأزمة لفترة قد تتعمق إذا ساد العالم ركود اقتصادي كما تشير كثير من التوقعات، وبالتالي يواجه العالم صعوبات كبيرة في وضع خطط استراتيجية لتفادي آثار الأزمة المتمثلة بالتراجع الاقتصادي حتى الآن. وقال: إن الخطط التي طرحت ضخت الأموال لكنها لم توقف تداعيات الأزمة، كما لم تعالج آثارها الاستراتيجية على أسواق المال والاقتصاد العالمي، وبالتالي لم تعد مجدية على المدى القريب والمتوسط. ودعا إلى البحث عن سبل أكثر نجاحا في منع تفاقم الأزمة واحتواء تداعياتها على مدى السنوات القادمة. كما دعا إلى إعادة النظر في فلسفة اقتصاد السوق والعودة إلى الاقتصاد الحقيقي والعمل على توفير مراقبة دقيقة لمؤشرات الاقتصاد العالمي وتحولاته.
الأستاذ جواد الحمد، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط، تساءل في مداخلة له عن تداعيات الأزمة على نمط وطبيعة الحياة العامة في الغرب وفي الوطن العربي خلال عامين من اليوم؟ وقال: إن تداعيات الكساد بهذا الحجم على الاقتصاد والمصالح العليا للدولة وعلى قوة الدولة الداخلية والخارجية في الولايات المتحدة سيشكل أمريكا جديدة، قد لا تكون ذات الصورة التي نتعامل معها اليوم سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وإننا أمام جيل جديد من أسواق المال والعلاقات الدولية والتفاعلات الإنسانية. وإن تداعيات الأزمة حتى الآن هي مجرد رأس جبل الجليد كما يقول عدد من الخبراء، ولذلك فإن على العرب أن يستعدوا للمرحلة القادمة بسياسات وإجراءات حماية لاقتصادهم وأسواقهم، وعدم الاطمئنان إلى بعض التقديرات الدولية لأنها لا تتكلم عن مقارنات اقتصادية بين آثار الأزمة على دولنا صغيرة الاقتصاد ودول العالم الغنية هائلة الاقتصاد، ولكن على الصعيد المحلي الداخلي لكل دولة عربية فقد تكون الأمور مختلفة. واقترح الحمد التركيز على سياسات تحقيق الأمن الغذائي وتوفير الخدمات الأساسية وحراك السوق بدلا من سياسات التطمين غير الموزون وغير العلمي. من جهة أخرى يعتقد الحمد أن ثمة فرصة سانحة لحراك عربي إسلامي نشط لبلورة نظريات عمل وسياسات وطرح تصورات وآليات مالية واستثمارية تنسجم مع مبادئ الشريعة الإسلامية الاقتصادية، وذلك في ظل بحث العالم عن إعادة هيكلة نظام السوق وأسواق المال والاستثمار، ومن المهم عدم التسليم بغياب نظرية اقتصادية إسلامية مكتوبة ومتفق عليها، فإن كانت ملامحها وأسسها موجودة فلماذا لا يتم تشكيل فريق أو هيئة عربية إسلامية لوضع هذه النظرية مفصلة بشكل يتناسب مع متطلبات الاقتصاد المعاصر وتعقيداته.
أما المهندس وائل السقا، نقيب المهندسين الأردنيين، فقال: إن هذه الأزمة المالية والاقتصادية بدأت وطالت أمريكا والدول الغربية أساسا، وكان أثرها على الدول العربية محدودا- حتى الآن-، ولكن لا بد للدول العربية والإسلامية أن تتدارك الأزمة وتحاول وضع حلول اقتصادية ومالية نابعة من مبادئنا وتراثنا الإسلامي، وأن تعمل على ربط الاقتصاد بالأخلاق والمبادئ والقيم الإسلامية، وإيجاد نظام اقتصاد إسلامي وتطبيقه مع تغيير أسلوب الحياة والسلوكيات وتربية الأجيال بما يتناسب مع قيمنا وديننا وأخلاقنا التي أكدت على التكافل ومحاربة الفساد والاحتكار والغش، والتأكيد على أهمية الرقابة والمحاسبة، وأن هناك حياة آخرة ستطال الفاسدين والمسيئين وتكافئ المحسنين.
وتساءل الدكتور يعقوب سليمان، رئيس جمعية اقتصاديي العالم الثالث،: هل ساهمت العائدات النفطية العربية وغير العربية في توفير السيولة للمؤسسات المصرفية والمالية الأمريكية والأوروبية إلى الحد الذي تساهم فيه بتخفيض أسعار الفائدة إلى المعدلات التي وصلت إليها (1%) أو أقل، وتساهم بالتالي في الأزمة؟ ولماذا يطالب منا تحمل وزر أزماتهم المالية والاقتصادية كما أشير في الصباح؟ وهل مطلوب منا تمويل حروب أمريكا ضدنا في العراق وأفغانستان وفلسطين بإنقاذها من أزمتها المالية؟ وتساءل عن تهريب مليارات الدولارات من ليمان برذرز إلى الكيان الصهيوني، وهو الموضوع الذي أثير أيضا في الصباح؟
وتساءل أيضا: كيف يمكن أن يكون الاقتصاد الأردني غير متأثر بالمطلق، علما أن تحويلات المغتربين في الخليج ستتأثر، بل ربما العمالة الأردنية في الخليج قد تتأثر في حال تدحرجت الكرة إلى ملعب السوق الخليجي؟
أما الدكتور سالم بطرس مقطش، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأردنية، فقال: إن الانفصام الفكري بين توجهات الدولة وبين توجهات رأس المال الخاص بالشركات يتسبب بأزمات اقتصادية واجتماعية خطيرة، وقال: إن توجهات رونالد ريغان الرئيس الأمريكي في الثمانينيات شجعت بناء مجتمع الرفاه وغيبت الرقابة، وطفقت الشركات عابرة القارات تبذل محاولات للسيطرة على اقتصاديات العالم، والأزمة المالية الحالية هي منتج لتصارع الفكر الرأسمالي داخليا مع قواعده وأسسه وسياساته ومصالح القائمين عليه، واعتقد أن هذه الأزمة هي مخاض ميلاد العولمة، وذلك بتشجيع ارتفاع أسعار النفط والذهب وتزايد واتساع المضاربات، ثم بتشجيع انخفاض أسعار النفط والذهب، وبهدف تحقيق مكاسب كبيرة للشركات الكبرى من الكساد الاقتصادي وربما لتشجيع حروب عالمية وإقليمية وفتح الأسواق من جديد لتجار السلاح الدوليين! ولا حل للخروج من مآزق هذه الأزمة اليوم قبل تفاقمها في بلادنا إلا بالتوجه نحو الاقتصاد الإنتاجي والمشاريع الإنتاجية.
وتساءل المهندس هاني عاشور، عضو جمعية الرخاء ورجال الأعمال، عن مدى استيعاب المؤسسات والوزارات المعنية في الدولة لهذه الأزمة، واقترح أن يتم الاستعانة بكافة الكفاءات المالية الاقتصادية الوطنية لتحليل هذه الأزمة ولإعداد خطة وطنية لمعالجتها حاليا ومستقبلا، مثل عقد مؤتمر وطني يضم الخبراء الاقتصاديين والماليين لدراسة المشكلة وتقديم توصيات على المدى القريب والبعيد.
من جهة أخرى تساءل عاشور عن المصلحة الوطنية المتحققة بالاستمرار بربط الدينار الأردني بالدولار الأمريكي، خصوصا أن الاقتصاد الأمريكي على حافة الهاوية، وما مدى قوة الدينار الأردني حاليا ومستقبلا نتيجة هذه الأزمة، وحذر من الوقوع في تجربة عام 1988م بالنسبة لتخفيض قيمة الدينار، كما اقترح أن يكون هنالك مراجعة لقوانين الاستثمار لزيادة تحفيز الاستثمارات الخارجية وخاصة رؤوس الأموال العربية.
ودعا عاشور إلى تعزيز وتطبيق الأنظمة المالية الاقتصادية الإسلامية في الأردن والتوسع فيها ووضع القوانين والتشريعات التي تعزز ذلك من خلال تطبيق أدوات الاستثمار الإسلامية، كما دعا إلى العمل على تشكيل وحدة اقتصادية عربية حامية، وطالب بوضع الخطط الاقتصادية الكفيلة بمشاريع لمحاربة الفقر والبطالة، وأشار إلى الخطورة الناتجة عن استمرار أخذ توصيات البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية التي لم تتمكن من حماية أكبر اقتصاديات العامل من الأزمة، ولم توفر له إنذارا مبكرا بخصوصها، وضرورة الاعتماد على إنشاء مؤسسات وطنية والعربية لمراقبة أسواق المال والاقتصاد ومؤشراتها، بهدف توجيه العملية الاقتصادية والاستثمارية إرشادها.
وفي الجلسة الثالثة- التي خصصت لبحث التصورات والسياسات والإجراءات اللازمة لحماية الأسواق العربية والعالمية، والتي ترأسها الدكتور محمد عدينات، مدير دائرة ضريبة الدخل سابقا، وعضو هيئة مكافحة الفساد- قدم الدكتور منذر قحف، أستاذ ومستشار التمويل والأعمال المصرفية، ورقة أكد فيها أن جذور هذه الأزمة تعود إلى أواخر عام 2007م، ومنها تدهور سوق العقارات، وتمويل الحروب الأمريكية الخارجية منذ عام 2002م، واستدراج الأسواق الأوروبية وتوريطها من خلال عمليات التوريق وأسعار الفائدة المرتفعة على ذلك لعدة سنوات.
وقدم قحف رؤيته للأسباب التي أدت إلى تفاقم الأزمة ممثلة بالتوسع في معاملات المضاربات في الأسواق المالية، وانتشار ثقافة الربح السريع، والانتقال إلى الرأسمالية المالية والتخلي عن الإنتاجية والخدمية، واعتماد الإقراض بالفائدة، وانتشار التوريق، والاعتماد على الدين العام بدل الضرائب، والتزايد في الإنفاق الحربي الأمريكي، ليقدم حزمة من السياسات والإجراءات الوقائية والعلاجية، ومنها: انتشال البنوك المتعثرة، وتبني برامج لزيادة مداخيل الطبقة المتوسطة، ومساعدتها في تجاوز أزمة المساكن، واللجوء إلى الضرائب كتمويل حكومي بدلا من الدين العام، والتوقف عن التعامل بالمشتقات المالية، وإعادة النظر بنظم أسواق المال، وبالقوانين الحاكمة لها، والتوقف عن التوريق، وتقديم المعايير الأخلاقية على غيرها في التعامل بين البشر.
ويرى الباحث قحف أن المصارف الإسلامية بدت أقل تأثرا بالأزمة، وأن النظام المصرفي وسياسات المال والتجارة الإسلامية تحقق قدرا كبيرا من الحماية في مثل هذه الأزمات، لأنها تقوم على الاقتصاد الحقيقي والتجارة الحقيقية وليس على تجارة المال. ودعا إلى تقديم نظام الصيرفة الإسلامية للعالم وللآخرين بشكله الحقيقي الذي هو للبشرية كلها رحمة للعاملين وليس خاصا بالإسلام ولا المسلمين.
أما الدكتور فؤاد بسيسو، مدير مركز المستقبل للدراسات الاقتصادية ورئيس سلطة النقد الفلسطينية سابقا، فقد ركز في ورقته على الاقتصاد العربي مؤكدا على أن هذه الأزمة تعد الأخطر منذ (50) عاما, وأن المنبع الحقيقي لاندلاعها هي الولايات المتحدة. وقال: لقد أصبح هنالك رأي يدعو الى حاجة العالم الى خيارات جديدة تأخذ مصالح الدول بشكل عادل ومتوازن، والعمل على بناء أسس تحكم مؤسسات النظام المالي والاقتصادي الذي يعاني من فجوة انتاجية ادت الى التضخم.
إن المرحلة الحالية تستدعي مراجعه شامله في ضوء السلبيات الموجودة، والعمل على فهم تداعيات الأزمة وكيفية احتوائها على أسواق المال والاقتصاد العربي، وبالتالي المساهمة في حماية الاقتصاد العربي في مواجهة الازمات والتخفيف من آثارها. ودعا إلى وضع سياسات تتصدى لمتابعه تحسين أوضاع السوق المالي والقطاع المصرفي في الدول العربية وبشكل عاجل ومتابعه حقيقيه لمتطلبات ذلك بما فيها الرصد الدقيق والتحليل اللازم لتطورات الازمه ومؤشراتها المختلفه وتداعياتها، وطالب ببناء خطه استراتيجيه لتدعيم الاقتصاد تحظى بآليات المتابعة التنفيذية، وتقييم أدائها وإجراء التعديلات عليها في ضوء المستجدات المحليه والاقليميه والدوليه.
وقال: إن ثمة فرص سانحة أمام الاقتصادات العربية لإعادة النظر في التنمية الاقتصادية في الاسلام وتعزيز مسيرة الصيرفة الإسلامية وتحقيق التكامل الاقتصادي العربي, وتحقيق الأمن الغذائي العربي، والعمل على تبني عملة عربية واحدة وعدم ربط العملة العربية بالدولار حتى يتم السيطره على التضخم, وودعا بسيسو وقف الإفراط في تطبيق نظرية اقتصاد السوق، والعمل بدلا من ذلك على تحسين المناخ الاستثماري لجذب الرأس المال العربي، كما رأى الباحث أن دمج البنوك التجارية والبنوك الاستثمارية لتكون قادرة على مواجهه الأزمات, وإعادة النظر في الاستثمارات العربيه في الاسواق الماليه العالمية سوف تساهم في تحقيق حماية اكبر ونماء أفضل للاقتصاد العربي.
وكان الدكتور محمد عدينات، عضو هيئة مكافحة الفساد ورئيس دائرة ضريبة الدخل سابقا، قد قال في افتتاح الجلسة: إن الأزمة المالية هي ليست فقاعة بل هي إعصار كبير مؤلم، وتداعياتها لم تنته بعد، ومعالجة آثارها المالية والاقتصادية قد تحتاج إلى وقت طويل، وبالرغم من أن إرهاصاتها قد بدأت بالظهور في عام 2007م إلا أن حِدّة هذه الأزمة وقوتها وحجمها قد فاقت كل التوقعات، وأدت إلى خسائر كبيرة جداً في المؤسسات المالية وجعلتها على حافة الإفلاس، وخصوصاً بنوك الاستثمار وصناديق التحوط ومؤسسات الرهن العقاري وشركات التأمين، والتي كادت أن تؤدي إلى انهيار النظام المصرفي، وما قد يترتب على ذلك من تداعيات مدمرة على اقتصاديات العالم وخصوصاً في أمريكا والدول المتقدمة، ولولا سرعة الاستجابة واعتماد خطة إنقاذ غير مسبوقة لكان الأمر أخطر مما هو عليه الآن، رغم أنها تتعارض مع الفكر الاقتصادي الكلاسيكي للمحافظين الجدد. وقال: إن للأزمة تداعيات خطيرة على السوق والاقتصاد، أهمها الانخفاض الحاد في البورصات العالمية وما يسببه ذلك من تراجع للنمو الاقتصادي في بلدان العالم، وهو مدعاة إلى تراجع الاستهلاك الخاص وتراجع الطلب سوق التوظيف Job Market.
وقال: إذا لم يتم اتخاذ سياسات وإجراءات فعالة فإنه من المتوقع أن تتعمق وتطول مرحلة الانكماش الاقتصادي، وأن يستمر التراجع في الاستهلاك الخاص، وقد يتراجع الاستثمار في ظل التوقعات المتشائمة عن مستقبل الاقتصاد، علما أن الإجراءات المستعجلة قد تؤدي إلى مزيد من العجز في ميزانيات الدول.
وتوقع عدينات أن توضع كثير من القيود على المشتقات المالية وبنوك الاستثمار ومؤسسات تمويل العقارات ومؤسسات الرهن العقاري وتوريق الديون وشركات التأمين، وإن كل ذلك سيؤدي إلى تراجع أرباح الشركات في المستقبل وهو ما قد يؤدي إلى تراجع النمو الاقتصادي.
ودعا عدينات إلى إعادة النظر في عمل النظام المصرفي أان يكون دوره في خدمة الاقتصاد الحقيقي، وكذلك إعادة النظر في النظام النقدي الدولي ودور صندوق النقد الدولي، وطالب بمعالجة الانكماش الاقتصادي الناجم عن تداعيات هذه الأزمة ومحاولة الخروج منه في أقصر وقت ممكن، كما دعا دول العالم، والعرب على وجه الخصوص، إلى إعادة النظر في دور الدولة في الاقتصاد الكلي على ضوء الدروس المستقاة من تجربة المحافظين الجدد.
أما الدكتور محمد صقر، أستاذ الاقتصاد الإسلامي في الجامعة الأردنية، فقد قال في تعقيبه على أوراق الجلسة وموضوعها: أرى أن هذه الفرصة مواتية للولايات المتحدة لمراجعة سياساتها الداخلية والخارجية، وللأسف فقد أهملت الولايات المتحدة مبدأ العدالة داخليا وخارجيا، والفرصة متاحة الآن لأن تتوقف الولايات المتحدة الأمريكية عن نهب اقتصاديات الدول الأخرى، وتوظيف الفوائد المالية لمصلحتها، وعدم تمكين الدول الفقيرة من تنفيذ برامج حقيقية لمحو مشكلة الفقر. كما أن الولايات المتحدة قاومت وبشدة أي محاولة لإنشاء تكتلات اقتصادية في منطقتنا العربية أو منطقة دول أمريكا اللاتينية.
واعتقد أن البنوك الإسلامية مهيأة لتطوير دورها الاقتصادي والتمويلي بشكل أكثر كفاءة لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة في المجتمعات العربية والإسلامية، ولعل تجربة بنك جرامن للسيد محمد يونس في بنغلادش تساعد في بلورة تصورات ناضجة بهذا الاتجاه، وإن البنوك الإسلامية مدعوة لدراسة التحولات الجارية في العالم لتجد لها قدما إسلامية بين بنوك العالم ولتقدم النموذج الحضاري العربي والإسلامي للاقتصاد.
أما الدكتور محمد عثمان شبير، رئيس قسم الفقه والأصول في جامعة قطر، والمتخصص في المعاملات المالية الإسلامية، فقال في مداخلة رئيسية: إن الشريعة الإسلامية جاءت بمنهج حياة متكامل في جميع جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومن هذا المنطلق نشأت المصارف الإسلامية لتكون البديل الإسلامي عن البنوك التجارية (الربوية) التي انتشرت في العالم العربي والإسلامي، حيث نظر رجال الاقتصاد الإسلامي في المعاملات المالية الإسلامية، وأنتجوا منها منتجات إسلامية تصلح للتطبيق في العمل المصرفي الإسلامي،.
واقترح شبير عددا من الإجراءات والسياسات التي تحقق الحماية للاقتصاد العالمي وأسواق المال، مسترشدا بأسباب الأزمة التي ساقها خبراء الاقتصاد في الندوة وغيرها، حيث أكد على احترام الملكية الفردية، وصيانة الحرية الاقتصادية المنضبطة بالقواعد الكلية في الأديان مثل عدم أكل أموال الناس بالباطل. وحذّر من كثرة المال في أيدي الناس المجردين عن الدين والأخلاق، والتي قد تُطغيهم في التصرف بتلك الأموال، مما يلحق الضرر بالأمة، كما دعا إلى البعد عن جميع صور"الربا" وأشكاله من القرض بفائدة، وبيع السندات وشهادات الاستثمار وشرائها، فهي تجارة بأوراق ليس لها قاعدة إنتاجية حقيقية، ولا تحقق أية قيمة مضافة.
وطالب شبير من منطلقات إسلامية بالاهتمام بالصناعة والزراعة والتجارة من بيع وشراء للسلع والخدمات، والمشاركات التي تحقق الإنتاج الفعلي والقيمة المضافة، والعودة إلى نظام "الغطاء الذهبي والفضي" ولو جزئيا ًلحماية العملات من الانهيار، ودعا إلى إيقاف كل صيغ "بيع الدين بالدين" وأشكاله من "التوريق"، وخصم(حسم) الأوراق التجارية، وخصم الشيكات المؤجلة السداد، وجدولة الديون مع رفع سعر الفائدة، وغير ذلك مما حرَّمته الشريعة الإسلامية، وكذلك إيقاف المضاربين عن التلاعب بالأسعار في الأسواق المالية، فهم يُجرون معاملات وهمية غير حقيقية. وطالب بوقف التعامل بالمشتقات والمضاربات في سوق المال، مثل: البيع على المكشوف الذي يمنعه الاقتصاد الإسلامي ويحذر منه، والحد من المتاجرة بالعملات على الانترنت.
ودعا إلى الأخذ بعقود الاستثمار والتمويل الإسلامي التي تُجريها المصارف الإسلامية، ومواكبة البنك المركزي (بنك الدولة) لما هو جديد في سوق المال بالرقابة المشددة على أسواق المال، وعلى العمل المصرفي بعامة، وعلى ضخ الائتمان (الاقتراض) بخاصة.
وطالب شبير الدول بتفعيل السياسات المصرفية بحزم وصرامة، وبخاصة فيما يتعلق بإدارة السيولة، ومخاطر الائتمان، وكفاية رأس المال، ونشر ثقافة الاقتصاد في المعيشة، والادخار، وعدم الاقتراض إلا لما هو ضروري أو حاجي، وإخضاع مؤسسات الوساطة المالية لرقابة الدولة المشددة، وإلزامها بضوابط العدل والإنصاف التي تعمل على حماية أفراد المجتمع من إغرائهم والتدليس عليهم.
أما الدكتور ماهر الواكد، فقد قال: نحن أسواق ناشئة Emerging Markets ولذا فمن أجل تلافي انعكاسات الأزمة أو أي أزمة قادمة أقترح فتح أسواق جديدة لمنتجاتنا مع تجويد إنتاجنا من السلع والخدمات وتوسيع الأسواق القائمة منها، والعمل على تنمية الأسواق المالية العربية وترسيمها بإدخال الصناديق السيادية كصافي الأسواق وإدخال أدوات استثمارية جديدة ولكنها مدروسة، مع تلافي الأمراض البنكية الغربية لا سيما الأميركية منها Short Selling (البيع على المكشوف)، والعمل على إنشاء أجهزة إنذار مبكر لاكتشاف الأزمات وتلافيها أو التخفيف من آثارها.
ودعا الواكد إلى إيجاد مؤسسات تصنيف عربية من أجل دخول الشركات العربية في الأسواق العربية الأخرى، وكذلك من أجل تقييم الشركات والبنوك التي تطلب الإدراج المشترك لأسهمها، وطالب بدعم الصناعات المشتركة العربية لاسيما التحويلية من أجل التخفيف من أزمات البطالة وإيجاد فرص عمل للداخلية الجدد إلى سوق العمل.
أما الدكتور أحمد العوران، رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة الأردنية فقال: نحن مقبلون على أزمة أخرى لأننا نجلس على برميل من البارود اسمه المشتقات المالية والتي بلغت حجماً هائلاً. ومن ناحية أخرى نحن نعاني من الفكر الرأسمالي المبني على الإنسان الاقتصادي فردي النزعة، والساعي وراء تحقيق مصلحته بلا حدود ولا قيود، والمبني أيضاً على السوق الحرة والنظام الذي لا يعطي دوراً مهما للدولة والقيم، بل إن السوق قد احتوت كامل المجتمع.
وقال: إن تجربة الدولة الإسلامية أيام الدولة العباسية تبين أننا نستطيع أن نطبق النظام الإسلامي وليس هناك ما يمنعنا، وأيام الدولة العباسية لم يكن هناك رأسمالية ولا اشتراكية ولا حتى نظرية اقتصادية إسلامية؛ فالذي يحتاج إلى النظرية هم الأكاديميون، وما على المستثمر إلا أن يعمل وفقاً للقيم الإسلامية، وليس هناك مشكلة في ذلك في جانب الاقتصاد الحقيقي، إذ إن الإنتاج لم يتغير وإنما تغيرت الأدوات والتقنية.
أما الأستاذ مهند طويلة، عضو جمعية الرخاء ورجال الأعمال، فقال: إن النظام المالي العالمي منذ بدايات تأسيسه منذ 200 عام نشأ على أسس ربوية تخالف حاجات البشر بشكل عام، وتخدم فئة قليلة من المؤسسين، وبدأ هذا النظام بالتنامي بشكل سرطاني في جميع أنحاء مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فكانت هناك البنوك والمؤسسات المالية والشركات العقارية وشركات التأمين والشركات التجارية والمصانع وأساس الملكيات وتجمعات الرهنيات المختلفة... الخ مما يتوافق مع هذا النظام. وما لم يسع علماء هذه الأمة ومفكروها العلميون والاقتصاديون إلى وضع نظام اقتصادي راش، ونشر أدوات تنفيذية لهذا النظام من بنوك ومؤسسات مالية وشركات عقارية وتأمينية وتجارية وصناعية... الخ سنبقى نعيش هذه الأزمة وأزمات أخرى، وسنبقى متأثرين وغير مؤثرين، ولنعلم أن كل طريق يبدأ بخطوة، وعلينا جميعاً شحذ الهمم واستنهاض العزائم والعمل بشكل عملي لهذا الأمر، وجمعية الرخاء ورجال الأعمال تمد يدها للتعاون والتنسيق للبدء في هذا البرنامج على المستوى الوطني والعربي والدولي.
وفي الجلسة الختامية- التي خصصت لتقديم رؤية استشرافية لتطورات الأزمة المحتملة وبرامج الإنقاذ المقترحة، ولتداعيات هذه الرؤية على إعادة تركيب وتنظيم النظام الدولي بإعادة المختلفة، والتي رأسها الأستاذ جواد الحمد- قدم الدكتور خالد أمين عبد الله وزير التخطيط الأردني الأسبق، وعميد كلية الدراسات المصرفية في الأكاديمية العربية للعلوم المالية والمصرفية وعضو اللجنة العلمية للندوة ورقة قال فيها: إنّ نظاماً اقتصادياً هو الرأسمالية لم يعد النظام الأمثل، وإنّ انهيار الاشتراكية لم يكن سوى النذير لأفول الرأسمالية، وإن نظاماً ثالثاً بديلاً هو الحلّ، نظام يضمن الحرية الاقتصادية للفرد، ويحافظ على شراكة المجتمع ككل في الكلأ والماء والنار"، ليس بمعانيها المعجمية، وإنّما بمدلولاتها من أسباب الحياة التي يجب أن لا تترك للأفراد للتحكم فيها، وإنّما على الدولة أن تباشرها، كالصحة والتعليم والمرافق العامة من مياه وكهرباء وغيرها، ذلكم هو النظام الاقتصادي الإسلامي بصورته المتكاملة لمختلف الجوانب وليس أعمال الصيرفة فقط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق